من دون سابق انذار اكتشفنا ومع انطلاق الاحتجاجات الاخيرة؛ وجوداً وعنفواناً لما شيعناه الى مثواه الاخير منذ عقود، أي النقابات. ما السر خلف ذلك الانبعاث المفاجئ لها، وهل يمكن فك طلاسم ذلك اللغز، عبر الاستعانة بترسانة الاصطلاحات الجديدة ومنها على سبيل المثال ما يعرف بـ “الخلايا النائمة”؟
في الاجابة على مثل هذه الأسئلة لا مناص من المرور السريع على مفهوم النقابات وجذورها، ذلك الحدث الذي ترافق وولادة العراق الحديث. لقد تشكلت بواكير الحركة النقابية استجابة للتطور الذي شهدته خارطة المهن والاعمال والاختصاصات في نهاية النصف الاول من القرن المنصرم، وما النجاحات السريعة والنوعية التي حققتها تلك النقابات؛ الا دليل على ديناميكية وحيوية المجتمع ونوع اهتماماته واولوياته آنذاك، لقد مثلت بحق معيارا دقيقا لاستعداده على التعافي واسترداد مكانته ودوره بين باقي المجتمعات، على العكس مما نشاهده اليوم من حال واحوال ما تبقى من حطامها وبدائلها المشوهة، والتي تعكس حجم الانحطاط والتشرذم الذي انحدرنا اليه برفقة عقود من الحكم الشمولي وورثته من قوارض المنعطفات التاريخية.
عندما نتفق على وضعها الراهن وعلله وما يمكن ان تمثله من ملامح ووظائف، لا سيما وان حالها لم يختلف عن باقي الاحزاب وسكراب المؤسسات التي اورثتنا اياها حقبة “جمهورية الخوف” ان لم يكن اتعس، حيث لم تكلف نفسها باجراء اية تغيرات او تحولات جذرية، لا في حياتها الداخلية ونوع ملاكاتها ولا في خططها وسياساتها العامة. ليس هذا وحسب بل سارعت برفقة السلالات الجديدة التي هبطت على سنام مواقعها العليا بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين، الى اشهار بيعتها للكتل التي تلقفت اسلاب الغنيمة الازلية، عاقبة كل ذلك لا يخفى على المتابع الحصيف للمشهد الراهن، والذي يعج بعشرات “النقابات” ومئات “الاحزاب” وآلاف مما يطلق عليه بـ “منظمات المجتمع المدني” وغير ذلك من نوادي ومنابر وجمعيات، ينطبق عليها قول الشاعر دعبل الخزاعي: “اني لافتح عيني حين افتحها/ على كثير ولكن لا ارى احدا”. لذلك لا يمكن انتظار حصول اية تحولات جدية أو اصلاحية، تنطلق من داخل ذلك الحطام، الذي لايقل بؤساً وتعفناً عما هو لدى الكتل و”الاحزاب” السياسية، بل الامل معقود كما هو الحال مع باقي موروثات الحقب السابقة؛ بتحولات بعيدة عن ذلك الحطام الميئوس منه.
مرة اخرى نؤكد على ما اشرنا اليه مرارا وتكراراً، الا ان انتظار حصول زحزحات نوعية وبنيوية في مجتمع مثقل بكل هذا الاحتياطي الواسع والمتجذر من سكراب الاحزاب والنقابات والمؤسسات والهيئات والادارات واقطاعيات وعصابات ما قبل الدولة الحديثة؛ لن يحصل بين ليلة وضحاها كما تروج المنابر والمخلوقات الاكثر ضجيجا من هذا الحطام، فلا سبيل الى ذلك سوى الوعي العميق بمثل تلك المخاطر والتحديات، ومن ثم اعتماد منهج النفس الطويل والمثابرة بعيدا عن النزق وبهلوانيات حرق المراحل؛ كي تسترد الحقوق بشكل تدريجي وعقلاني، وبالتالي الشروع بوضع الاساس المكين، للبدائل السليمة سياسيا ومهنياً واقتصاديا واجتماعياً. ان الرهان على ما تبقى من سكراب “النقابات والاتحادات” لا يقل فتكاً عن الرهان على منظومة “الاحزاب” والكتل المتنفذة على تضاريس عراق ما بعد “التغيير”، وهما يمثلان على أرض الواقع وجهان لمشوار لم نعرف برفقته سوى الهزائم والهوان والخيبات..
جمال جصاني