التناسل السردي في منزل ح 17

علوان السلمان

النص السردي تجسيد لرؤية فكرية عميقة مجتمعيا يكشف عنها وعي منتج مكتنز الذاكرة باتساع ودقة رؤاه التي تسجل ما تلتقطه من لحظات الوجع الإنساني، بمزجه ما بين البنية الفنية والمضمونية بأفق معرفي مكتظ بالأسئلة المعبرة عن مقاصده النصية فيطرح اشكاليات متعددة على مستويات متفاوتة يتداخل فيها الواقعي بالمتخيل والذاتي بالموضوعي.
وباستدعاء النص السردي (منازل ح 17) الذي نسجت عوالمه النصية المتواترة الفعل عبر رواة وامكنة شكلت بؤر معرفية مضافة وعنصر فاعل من العناصر المكونة للفضاء الحكائي، والتي كشفت عنها الايقونة العنوانية والعلامة السيميائية التي اعتلت لوحة توسطت الغلاف الاول واعتلاها اسم المنتجة، وقد خلا من نوع الجنس، مع تمهيد يكشف عن عوالم المتن النصي التي سجلتها الساردة وهي تتكئ على ذاكرة امها وجدتها ومن يقترن بها بالتعاقب.
هذا يعني اشتراك الام والجدة وامها واختها وجارتها وامها وجدتها وراوية الحديث في نقل الحدث السردي، فضلا عن انها تقوم على اكثر من مرتكز درامي وثيمة سردية اشتغلت عليها الساردة وهي تستحضر هذا الكم من الاحداث التاريخية والشخصيات التي لعبت دورها الفاعل والمؤثر، اضافة الى اعتمادها البعد الاوتو بيوغرافي ـ السيري الذاتي ـ اذ سرد الراوية سيرتها الكتابية وبدأت شخوصها بالخروج من سلطتها.. لذا فالنص عندها يعتمد على ظاهرة التناسل السردي التي تعود جذورها الى(الف ليلة وليلة) حيث تعتمد بنية الحكايات على تناسلها من بعضها وتوالدها، وهذا منح النص الطابع التشويقي والاثارة واستفزاز الذاكرة المستهلكة، انه سرد(نارسيسي)على حد تعبير ليندا هتشبوت، كونه عملية قص القص او حكي الحكي..او ما يطلق عليه الميتاسرد او ما وراء السرد الذي هو(نوع من الكتابة السردية ذاتي الانعكاس يتمثل في وجود تخييل فوق التخييل الأصلي، أي ان النص يمتلك وعيا ذاتيا ويكسر الحاجز بين الواقع والخيال..)..هذا يعني ان الميتاسرد تقنية فنية قائمة على قصدية الكتابة التخييلية التي تتناول بوعي ذاتي ادوات السرد المتجاوزة للقوالب الجاهزة وتحطيم تقليدية الكتابة ونسقيتها.
(انها لا تكترث بحبسها وحالها ويشغلها جمال بغداد.
بعد أيام حدثني زوجي عنها: لم أعرف امرأة أشد منها طهارة وعقلا وكمالا، لا افهم لم ينسبون لها الانشقاق عن الدين؟ حركت رأسي ايجابا وقلت: انها صائمة دائما وتشرع بالصلاة والدعاء والمناجاة، الا تسمع صوت أذكارها مع كل آذان؟
ـ وهل قنوت صوتها يخفى؟
ـ أتدري يا أبا الثناء ان لها عطرا جميلا لا يلتقطه الا من يقترب منها، أبلغتني انه يفوح منها منذ الطفولة لكنني لا أصدق ذلك.
ـ امرأة ذات عطر طبيعي
ـ لعلها تكذب خبرني كيف رأيتها وانت تكثر من سجالها؟
ـ بلى جادلتها فيما تعتقده، فشرحت رؤيتها ودافعت بحجة مقنعة عن قضيتها، أنا المتعصب لمذهبي خشيت أن تضعف عقيدتي أمامها
قلقت عليه: يا أبا الثناء إنك ذو علم حصيف وبصيرة ثاقبة ما الذي تقوله؟؟
ـ تلك الحقيقة، أبلغتها انني أؤمن بمعتقدها لولا خشيتي من سيوف العثمانيين، فهناك من يحرض الوالي ضدي ويدعي بأنني المحرض على الاحتجاجات التي عمت بغداد مؤخرا، ذكرته بما فعله العثمانيون به قبل أعوام وحذرته بوجوب الحيطة، فبدا قلقا متشوشا: أشعر بعيونهم ورائي
ـ حماك الله من شرورهم يا أبا الثناء)185 ـ186 ـ 187
فالنص يعتمد الحوار الموضوعي الذي طغى على كل منازله من اجل الكشف عن دواخل الشخصية مع غياب السارد العليم، فضلا عن انه يكشف عن قدرة رؤيوية للواقع الممزوج بالخيال الخالق لصوره الحالمة، المشحونة بشحنات تناغمت مع الحس النفسي عبر دلالات هاجسية فاعلة بفعلها ومتفاعلة بذاتها والتي(تهبط في الطبقات النفسية العميقة) على حد تعبير هربرت ريد، عبر بنى استرخائية ولغة شعرية تخاطب الوجدان وفق معيار حدائي له التزاماته الموضوعية مع تركيز على الخصائص الحسية لإبراز جماليته المنبثقة من استنطاق كينونة اللفظ الرامز وتفعيل الاثر الذهني بلغة تكثيفية تتماهى واللغة السردية، فضلا عن اهتمامها بغنائية الموضوع اكثر من الاهتمام بمعيارية الشكل لخلق نص يتوخى الايجاز وعمق المعنى وكثافة الايحاء..
وبذلك قدمت الساردة نصا يشتغل على زمنين متداخلين: أولهما زمن القص الذي يخضع للتتابع المنطقي للأحداث، وثانيهما زمن الحكي الذي هو مجموع الاحداث التي تشكل مادة الحكاية السردية، اضافة الى أضاءتها خبايا الذات باسترسال متعدد الظلال الرؤيوية مع تركيز على جمالية السياق الحدثي مبنى ومعنى ..وهي تستمد تأثيره من خلجات النفس واحلامها السابحة في فضاءات المخيللة لمعانقة الواقع من اجل خلق مشاهدها بتلقائية تحتكم المنطق القائم على التجربة.. والتعلق بجوهر الحياتي المنبثق من لحظة التجلي التي تستشرفها الساردة.
لذا فان ما حققته الساردة في هذه التجربة الروائية يعد انجازا متفردا في ادب الميتاسرد حيث استطاعت بحرفنة المنتجة المجربة والمتلقي(المستهلك) المتبصر ان يغور في التاريخ ليلتقط منه فصولا مؤثرة في وجدان الفرد العادي والمتلقي المنتج للنص الموازي، بكل شخوصها واحداثها باعتماد ضمير المتكلم مرة والغائب مرة اخرى.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة