تأتي الاحتجاجات الأخيرة وما رافقها من احداث عنف متبادل بين قوات الامن والمتظاهرين، لتعكس المأزق الذي وصلت اليه العملية السياسية بعد أكثر من 16 عاماً على ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، والتي تمهد لولادة عراق جديد آمن ومزدهر ومستقر، هذه المهمة التي اخفقنا بها جميعاً (افرادا وجماعات) لعلل واسباب لم تحض من قبل سكراب الانتلجينسيا لا بالعناية والاهتمام وحسب، بل تعرضت من قبل الكثير منهم الى التشويه والمسخ والتسطيح، عبر ضخ وترويج الحماسات والشعارات الثوروية وحطام الطوبويات التي عفا عليها الزمن، وقد نقلت لنا وسائل الاعلام استعراضات ومزاودات الكثير منهم في دعم التظاهرات الاخيرة، من دون أدنى ذرة من خجل أو حياء حول سيرته الذاتية المثقلة بالتملق والاعتياش على ما ترمى اليه من فضلات المنطقة الخضراء. أما ثوار المنافي لا سيما من يحرص منهم على استلام مخصصات خدمته النضالية والجهادية من المال العام، فان الحديث عنهم يحتاج الى الاستعانة بمتخصصين في مجال علم النفس.
لا يتناطح كبشان على فساد وفشل وشراهة وضيق افق الطبقة السياسية التي تلقفت امور عراق ما بعد “التغيير” وهذا ما تناولناه مع المهتمين والمتابعين، في معظم مقالاتنا المنشورة ولقاءاتنا مع وسائل الاعلام السمعبصرية ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي هذا الامر نلتقي مع الغالبية المطلقة من العراقيين، لكننا نختلف في فهم ووعي هذه القسمة العاثرة. نختلف تماماً مع من يصر على تقسيم المشهد الحالي الى فسطاطين؛ الاول يتمترس به ملائكة المجتمع العراقي، والثاني تتكدس به شياطين ذلك المجتمع، لتشرع الأبواب أمام جيل جديد من المعارك والثورات والانتفاضات وصناعة “الابطال” الذين ينوبون عنا في مهمة استرداد الفردوس المفقود. ان لهذا العجز والفشل علل واسباب تتواشج مع منظومة ثقافية وقيمية متجذرة وراسخة، والعبور عليها من خلال دقلات وشعارات تتدغدغ الغرائز المتدنية للجموع ولا سيما منهم شريحة الشباب العاطل واليائس، يعد جريمة فادحة بحق حاضر ومستقبل هذا البلد المنكوب. ان محاولات حرق المراحل والرهان على مشاعر التذمر والغضب والاستياء، وايهام المتذمرين بقدرتهم على صناعة “ثورة” أو “انتفاضة” أو ترديد هتافات “الشعب يريد اسقاط النظام” جميعها لن تفضي سوى الى المزيد من الفوضى والتشرذم ويصب بالتالي لصالح القوى والعقائد والمصالح التي تنتظر بفارغ الصبر انجلاء عجاج مثل هذه الفزعات لتنفرد بـ “صافيها”.
أما موقف الفضائيات المحلية ووسائل الاعلام، فلم يشذ عما اشرنا اليه من تمترس واصطفافات وتصفية حسابات، على حساب المصالح العليا للعراقيين وتطلعاتهم المشروعة للعيش كباقي الامم في وطن حر وآمن ومستقر. ان دفع الاوضاع الى مزيد من الاحتكاكات واعمال العنف المتبادلة بين قوى الامن وجموع المحتجين، وفي بلد يتصدر قائمة البلدان في مجال السلاح المنفلت وعسكرة الدولة والمجتمع وسطوة العشائر والفصائل المدججة بكل أنواع السلاح والاحقاد والثارات؛ يعني وضع البلد رهن اشارة الجماعات الاشد اجراماً وفتكاً. كما ان انطلاق مثل هذه الاحتجاجات المدججة بكل انواع المطالب (من التعيين واعادة المفسوخة عقودهم الى اسقاط النظام مروراً باعادة الساعدي لموقعه و…) من دون وجود قيادة موحدة ومعروفة للرأي العام تدير دفة كل هذا الكم الهائل والمتشابك من الاهداف والغايات، وتتحمل عواقبه المختلفة؛ يعني المقامرة بما تبقى لدينا من فرص واقعية للاصلاح والتغيير …
جمال جصاني