مارتن ريس
كمبريدج- كان التقدم الذي عرفه مجال الطب البيولوجي في العقود الأخيرة مفيدًا للغاية-خاصة بالنسبة لفقراء العالم، الذين زاد متوسط العمر المتوقع لديهم إلى درجة كبيرة. ولكن المستقبل يبدو أكثر خطورة. ومع أن الابتكار المستمر سيحسن أكثر من جودة حياة الناس، فإنه سيؤدي أيضًا إلى ظهور تهديدات جديدة، وسيزيد من بعض المعضلات الأخلاقية المتعلقة بحياة الإنسان نفسه.
أولا، يدرس بعض العلماء طرقا أكثر نجاعة تمكن الناس من العيش حياة أطول. إلا أنه مع أننا كنا نرحب بكل تأكيد بحياة طويلة وصحية، فإن الكثير منا لا يريدون إطالة أمد الأمور بمجرد أن تتراجع جودة حياتنا أو توقعاتنا إلى ما دون مستوى معين. كما أننا نخشى أن نعاني من الخرف، على سبيل المثال، ونستنزف الموارد، ونثير شفقة الآخرين.
كما أن التقدم الطبي يفسد الانتقال بين الحياة والموت. واليوم، عادةً ما يصنف الموت على أنه «موت دماغي»، عندما تتوقف كل علامات نشاط الدماغ القابلة للقياس. ولكن هناك الآن اقتراحات لإعادة نشاط القلب بشكل مصطنع بعد «موت الدماغ»، من أجل الحفاظ على «طراوة» الأعضاء المزروعة لفترة أطول.
ومن شأن خطوة كهذه أن تزيد من الغموض الأخلاقي لجراحة زرع الأعضاء. وبالفعل، على سبيل المثال، يعمل «الوكلاء» عديمي الضمير على إقناع الناس في أقل البلدان نمواً، ببيع الأعضاء التي ستباع بعد ذلك بسعر أعلى بكثير، لصالح المستفيدين المحتملين الأثرياء.
وسيزداد هذا الغموض، وكذلك تراجع عدد الجهات المانحة للأعضاء. ولذلك، يجب أن تكون إحدى الأولويات جعل زرع الأعضاء الخارجية-الحصول على الأعضاء من الخنازير أو غيرها من الحيوانات للاستخدام البشري-روتينيًا وآمنًا. وقد يكون الخيار الأفضل، مع أنه بعيد المنال، هو الطباعة الثلاثية الأبعاد للأعضاء البديلة، باستعمال تقنيات مشابهة لتلك التي تُطور حاليًا لصناعة اللحوم الاصطناعية.
وقد يثبت التقدم في علم الأحياء المجهرية أنه سيف ذو حدين. إذ صحيح أن التشخيص الأفضل، واللقاحات، والمضادات الحيوية، كلها عوامل يجب أن تساعد في الحفاظ على الصحة، والسيطرة على الأمراض، واحتواء الأوبئة. ولكن هذا التقدم بالذات أثار هجومًا تطوريًا مضادًا وخطيرًا من مسببات الأمراض نفسها، حيث أصبحت البكتيريا محصنة ضد المضادات الحيوية المستخدمة لقمعها.
وقد أدت هذه المقاومة المتنامية بالفعل إلى عودة مرض السل. ومن دون استعمال مضادات حيوية جديدة، فإن المخاطر الناجمة عن التعفنات غير القابلة للعلاج، والتي تتكون بعد العملية الجراحية، ستعود إلى ما كانت عليه قبل قرن من الزمان. إذا فالحيلولة دون الإفراط في استعمال المضادات الحيوية الحالية-بما في ذلك، استخدامها لمعالجة الماشية الأميركية-وتحفيز تطوير علاجات جديدة يمثلان أولوية طارئة وطويلة الأمد.
ومع ذلك، هناك أيضًا مخاطر مرتبطة بالسباق نحو تطوير لقاحات محسّنة. إذ في عام 2011، أظهر الباحثون في هولندا، والولايات المتحدة، أن جعل فيروس أنفلونزا) H5N1إيتش فايف إن وان) أكثر ضررا وانتقالاً، كان أمرا سهلا لدرجة تثير الاستغراب. وقال البعض بأن استباق الطفرات الطبيعية بخطوة إلى الأمام من شأنه أن يسهل إنتاج لقاحات في وقت قصير. ولكن منتقدي التجارب أشاروا إلى زيادة خطر إطلاق الفيروسات الخطيرة دون قصد، أو حصول الإرهابيين البيولوجيين على تقنيات جديدة.
ويتطلب الابتكار السريع في التكنولوجيا البيولوجية أن نبحث في القوانين لإبقاء التجارب آمنة، والسيطرة على انتشار المعرفة التي يحتمل أن تكون خطرة، والرقابة على أخلاقيات كيفية تطبيق التقنيات الجديدة. ولكن التنفيذ الفعال لهذه القواعد في جميع أنحاء العالم سيكون مستحيلًا تقريبًا. وإذا كان بالإمكان القيام بشيء ما، فسيقوم به شخص ما في مكان ما. وهذا احتمال مرعب.
وفي حين أن إنتاج سلاح نووي يتطلب تقنية متطورة متعددة الأغراض، فإن التكنولوجيا البيولوجية تتضمن معدات صغيرة الحجم، وذات استعمال مزدوج. وفي الواقع، يعد الاختراق البيولوجي هواية تزداد شعبيتها، ولعبة تنافسية. ونظرًا لأن عالمنا أصبح مترابطًا جدًا، فإن حجم أسوأ الكوارث البيولوجية المحتملة أكبر من أي وقت مضى. ولكن الكثير من الناس ينكرون هذا.
واليوم، سيكون للوباء الطبيعي تأثير اجتماعي أكبر بكثير مما كان عليه في الماضي. فعلى سبيل المثال، كان الأوروبيون في منتصف القرن الرابع عشر، يؤمنون بالقدر، واستمرت القرى في العمل حتى عندما قتل الموت الأسود نصف سكانها. ولكن في هذه الأيام، يعد الشعور بالاستحقاق في كثير من البلدان المتقدمة قويًا إلى درجة أن النظام الاجتماعي سينهار حالما تفوق الوباء على نظام الرعاية الصحية.
كما أنه ليس من المهزلة تسليط الضوء على المخاطر البشرية للخطأ البيولوجي، أو الإرهاب البيولوجي. وفي آخر المطاف، فإن انتشار مسببات الأمراض التي أطلقت بشكل مصطنع، لا يمكن التنبؤ به، أو التحكم فيه. وهذه الحقيقة تمنع استعمال الأسلحة البيولوجية من قبل الحكومات، أو حتى من قبل الجماعات الإرهابية ذات الأهداف المحددة. ولكن الشخص المنطوي غير المتوازن وذو الخبرة في مجال التكنولوجيا البيولوجية لن يشعر بالضرورة بالقيود إذا كان يعتقد أن هناك الكثير من البشر على هذا الكوكب.
ويعد الخطأ الحيوي والإرهاب الحيوي ممكنين في غضون السنوات العشر إلى الخمس عشر القادمة. وسيصبح الخطر أكبر على المدى الطويل بمجرد أن يصبح تصميم الفيروسات وتوليفها ممكنا. وسيكون الكابوس النهائي سلاحاً بيولوجياً قاتلاً للغاية، يمكنه نقل نزلات البرد العادية.
ومع ذلك، فإن أكبر معضلة تتعلق بالبشر أنفسهم. إذ في مرحلة ما في المستقبل، يمكن أن ترهق تقنيات التعديل الوراثي، وتقنيات سايبورغ، البشر عقلياً وجسدياً. وفضلا عن ذلك، فإن هذا التطور-وهو نوع من «التصميم الذكي» العلماني-سيستغرق قرونا فقط، على عكس آلاف القرون اللازمة للتطور الدارويني.
وسيكون ذلك حقًا لعبة تغيير. واليوم، عندما نعجب بالأدب والتحف التي نجت من العصور القديمة، نشعر بالتقارب عبر آلاف السنين مع هؤلاء الفنانين القدماء وحضاراتهم. ولم تتغير «الطبيعة البشرية» منذ آلاف السنين.
ولكن لا يوجد سبب للافتراض أن التصميمات الذكية السائدة سيكون لها، بعد بضعة قرون من الآن، أي صدى عاطفي معنا، مع أنه قد يكون لديها فهم حسابي لطريقة تصرفنا. فهل ستكون بشرية؟ أم هل ستسيطر الكيانات الإلكترونية على العالم بحلول ذلك الوقت؟ هل لدى أحد أي فكرة؟
يعمل مارتن ريس، عالم الكونيات والفيزياء الفلكية، فلكيا ملكيا لبريطانيا منذ عام 1995. وأستاذ سابق في كلية ترينيتي، كامبريدج، والرئيس السابق للجمعية الملكية.
Project Syndicate
www.project-syndicate.org