العطر

انمار رحمة الله

أعملُ موظفاً في صيانة الكهرباء، عملنا مقسم على نوبتين، نهارية وأخرى ليلية. كنت أفضل الليلية لأنني أميل إلى السهر والقهوة وشركائي في العمل وأحاديثهم، نتقاسم رغيف الحكايات والقصص، والفناجين والسجائر، متأهبين، لأي اتصال يشكو صاحبه من عطل، بعدتنا المتنوعة، وسيارة ذات رافعة وأسلاك، مركونة في باحة دائرتنا الحكومية. أستلمُ المهام من النوبة النهارية عند الساعة الثامنة مساء، وأتسرب في ليلة الخميس دائماً صوب منزلنا القريب من الدائرة، أتناول العشاء مع أسرتي، وأنهي بعض الأعمال وأعود مسرعاً عند الساعة الثانية عشرة ليلاً. أحمل كيس الإفطار لليوم التالي، فشركائي بالعمل وافقوا على أن يسدوا مكاني الشاغر لبضع ساعات، وفرضوا بحكم المزاح و(الميانة) وجبة إفطار مؤجلة، نفتتح بها صباح اليوم التالي.. لم يثر انتباهي وفضولي سوى ذلك العطر الغريب الذي يملأ شارعنا عند خروجي من المنزل ليلاً!. عطر يفوح شذاه في الأنحاء، لا يظهر إلا في ليلة الخميس من كل أسبوع!. بالطبع أنا لم انتبه مباشرة لهذه المسألة، ولكن بعد أن تكرر ظهور العطر في الشارع، أكثر من مرة وخلال عدة خميسات، دبّ في قلبي الفضول، وشبت الأفكار برأسي كحريق في حلفة يابسة. من ذا الذي يملأ الفضاء بهذا العطر الخلاب، ولماذا عند منتصف الليل؟!. حين أبلغت رفاقي هناك، ضحكوا وقال أحدهم ( لعلها شجرة في حديقة تصدر ذلك الأريج). فلم أقتنع بقوله، لأن العطر يظهر مرة في الأسبوع، وبالتحديد ليلة الخميس عند الساعة المتأخرة تلك. قال آخر( لعل أحدهم يعمل في نوبة ليلية مثلنا، يخرج ليلاً فيملأ المكان بالعطر). أيضاً لم يقنعني هذا الاحتمال، فأنا أعرف المحلة والشارع والأزقة، لا يوجد سوى ممرض يعمل في المستشفى، وهو بعيد عن مكان سكني، وغيره لا أعرف أحداً يعمل في نوبة ليلية غيري.. في النهاية قررتُ أن أترصد لصاحب العطر، لعلني أصل إلى معرفة هويته، وقراري هذا أثار سخرية فريق العمل الذي كنت محشوراً بينهم، أرتب القهوة ومعدات السهر لليلة باردة أخرى.


جاءت ليلة الخميس، أنهيت أعمالي المعتادة، ثم هرعت إلى باحة المنزل، بعد أن جهزت نفسي للمغادرة. إنها ليلة باردة، والقمر مدفون في غيوم متراكمة. كم تمنيت أن يكون القمر مطلاً علينا في تلك الساعة لكي يساعدني أكثر في فضح صاحب العطر. فلم تكن في الشارع إنارة كافية لفضح معالم أي شخص داخل أو خارج منه. على أية حال، رتبت أموري على ان أنهي كل شيء الليلة، وقد أعترضُ طريقَ الشخص صاحب العطر وأسأله.. لم لا..؟ فالشارع شارعنا، ومن الواجب معرفة الغرباء الداخلين والتأكد من هوياتهم. انتظرتُ وانتظرت، حتى بان لي من خلال فتحة الباب الضيقة شبحٌ جاء من بعيد. طويل، وملامحه لم تتضح بسهولة. كان يحمل كيساً تدلى من كفه. وقبل أن يجتاز بابي احتدمت في رأسي الأفكار، هل أفتح الباب وأوقفه متسائلاً عن هويته؟. وإن عاب عليّ فعلتي ماذا سيكون ردي؟!. لا يهم ما دمت أريد الحفاظ على أمان شارعنا من الغرباء.. ولكن.. هل الشارع ملكي كي يتسنى لي إيقاف المارة ومسائلتهم ؟. رائحته النفاذة ملأت المكان، وخالطت الشجر في الحدائق وتغلبت على رائحة النارنج والقدّاح، فلم أعد أشمُّ غير تلك الرائحة الغريبة العبقة. وحين حسمتُ أمري وقررت الخروج وراءه وسؤاله، تفاجأت أن شبح الرجل ذاب في ظلام الشارع. هرولت وراءه باتجاه يمين منزلي، فلم أجده!. كأن السماء رفعته أو الأرض بلعته كما تبلع الرمال ماء المطر!. أين أختفى هذا الغريب صاحب العطر ؟!. إنها مصيبة لو أنني أضعت هذه الفرصة، فلم يعد باستطاعتي الصبر حتى مجيء ليلة خميس أخرى. علي أية حال وضعت خارطة في ذهني لكل من يسكن إلى جانب منزلي عن اليمين، لقد وصلت أعد الجيران حتى عاشر جار. وبعد التفكير والتنبه توصلتُ إلى أن خيط أريج العطر، يختفي لمجرد أن أجتاز منزلين على يميني.. فهو لم يبتعد عن صف المنازل على جهتنا، لهذا لن أتعب كثيراً. عرفت أن صاحب العطر إما داخل أو خارج، من منزل (مطيعة) الأرملة عاملة الخدمة في دائرة تابعة لحقوق الإنسان. وإما من منزل(ستّار)، الرجل السمّاك الذي لا يغادر الذباب جدار منزله. والجاران أعرفهما جيداً، ليسا من هواة العطور وأهلها، فمطيعة بالكاد تحصل على قوت عيالها اليومي، والسمّاك رجل يستحم بالزفر، ويتباهى برائحة السمك، هذا إن كان أنفه يمارس وظيفته الطبيعية إلى الآن.. هنا زادت حيرتي، وقررت أن أحسم الأمر ليلة الخميس المقبل، وأرى من هو ضيفنا الغريب الذي يملأ الشارع بتلك الرائحة.


(جاءت الأوامر من قسم الإدارة بنقل نوبتنا إلى الوقت النهاري)، هكذا هتف زميل لنا في فريق العمل الليلي. وفي الحال رتبنا أمورنا على تحويل العمل والوقت والأشغال إلى النهار. كم هو متعب أن تتخلى عن روتين عمل قضيت شطراً من حياتك فيه إلى آخر. ولكن على أية حال هذا هو عمل الدوائر الحكومية، هم يقررون وأنت تنفذ. وفي الحقيقة لم يكن هذا القرار ما يشغل بالي، بل كانت ليلة الخميس المنتظرة هي الشاغل. بغض النظر عن كل ما سيحدث. فأنا قد حزمت أمري أن أقطع الطريق في هذه المرة، ولن أجعل ذلك الشبح يمر بسهولة.. حين بدأنا ممارسة الصيانة نهاراً، كان العمل متعباً بالطبع، فالأعطال كلها تخرج دفعة واحدة في الصباح. ومن ضمن الاعطال التي توجهنا له، عطل في إحدى المدارس، بعد ليلة أرطب مطرها أسلاك المدرسة وحدث تماس أدى إلى عطل. وصلنا بسيارتنا إلى المكان، قرأت اللافتة الكبيرة الموضوعة في أعلى مقدمة بنايتها( مدرسة الوفاء لرعاية الأيتام والأرامل). وعرفت لاحقاً أنها مدرسة أُنشئت لرعاية الأيتام تدريساً وكسوة، إلى جنب رعاية أمهاتهم من أرامل الشهداء والمتوفين. شكرتُ الله على هذه النعمة، منظر المدرسة والطلاب حين تقلهم سيارات مخصصة، يشيع في قلب من يراهن الراحة والطمأنينة على مستقبل هؤلاء الأطفال.. حين انتهينا من عملنا همس في أذني زميلي( هيا يا صاحب العطر.. بالمناسبة..! ألم تعثر عليه؟) ثم ضحك.. قلت له (سأجده بلا شك.. بل سأنتقم منه موفياً دين الليلة الباردة تلك، حين صلبني كالمعتوه وراء الباب). ضحكنا ودخلنا إلى إدارة المدرسة، وسؤالهم عن أية خدمة أخرى. وما إن وصلنا إلى غرفة مدير المدرسة، حتى انتبهتُ إلى فخامتها، ومنظر الشهادات التقديرية التي زيّنت جدرانها، وكؤوس الفوز بالمسابقات التي رُصفت فوق دواليبها. كان المدير شخصاً مهيباً، طويلاً، يضع شارباً رفيعاً فوق شفته، ويدخن براحة وابتسامة وهو يوزع النظرات بين نسوة يجلسن على الأريكة في غرفته. إن لم يخب ظني فكن أرامل، يراجعن المدرسة للتعرف على مستوى ابنائهن، ويستلمن على الأرجح مساعدات لهن من خلال مدير المدرسة. سأله صاحبي عن أي شيء آخر، فأجاب المدير(لا شكراً.. لقد أكملتم عملكم.. أوصل تحياتي لمدير الصيانة في الدائرة). ثم ابتسم بثقة وجلس يراجع الأوراق أمامه، متجاهلاً وجودنا أنا وزميلي.. ربت زميلي على كتفي، فانتبهت له بعد أن كنت سارحاً أطالعُ المدير، الذي كان منشرحاً في جلسته.. وعطره يملأ المكان بالأريج.. عطرٌ جعل قلبي يخفق مرتاباً، مع قطرات عرق تزحلقن فوق جبيني، الذي بدا ساخناً على غير عادته.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة