لياقة الاحتجاج

بعد انقطاع طويل عن كل ما يمت بصلة لثقافة الاحتجاج والتظاهرات المطلبية منها والسياسية، زمن الهيمنة المطلقة للنظام المباد وشبكة أجهزته القمعية المتسللة لجميع تفصيلات حياة سكان هذا الوطن المنكوب؛ وجد العراقيون أنفسهم وجهاً لوجه مع ذلك الذي افتقدوه طويلاً؛ أي حقهم الذي ضمنه لهم الدستور الجديد في ممارسة كل أشكال الاحتجاج السلمي والحضاري للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم المشروعة في العيش الحر والكريم. ولم يمر وقت طويل حتى تحول هذا الحق الى ما يشبه الطقوس والشعائر المذهبية التي عادت بشكل لم تعرفه البلاد من قبل، صارت التظاهرات أسبوعية وأحياناً يومية، ولن نجافي الحقيقة إن قدرنا عددها بارقام تفوق ما سطرته فرنسا منذ ثورتها التي غيرت مسار ووجه التاريخ البشري الى يومنا هذا. وابل كثيف من التظاهرات والاحتجاجات التي تحطم وتحرق أحياناً؛ كل ما تصادفه أمامها وهي تردد بحماسة واندفاع شعار “سلمية..سلمية..” تظاهرات واحتجاجات وبالرغم من مرور أكثر من عقد ونصف من الزمن على تمتعها بهذا الحق الدستوري، لم تتمكن من امتلاك قيادات تدير وتشرف على مثل تلك النشاطات الواعية والحضارية، مما حولها الى فريسة سهلة لكل المآرب والميول والفلول، ليلحق في نهاية المطاف، أبلغ الضرر بمعنى ومغزى هذا الحق الدستوري المترع بأرقى ما وصلت اليه الأمم الحرة من تجارب ودروس وقيم، ليس هذا وحسب بل استعار جهابذة هذه الممارسة الراقية والمجربة تسميات وعناوين من حطام “ربيع العرب” وتجلياته البائسة في سوريا، أي “التنسيقيات” والتي أطلقوها على لجانهم التي سعت لاستنساخ التجربة السورية.
نطرق هذا الملف (الاحتجاج) ونحن نعيش تجربة التظاهرات والاحتجاجات التي اندلعت في مدينة البصرة مؤخراً، وانتهت بحرق مبنى ديوان المحافظة ومقرات بعض الأحزاب ومبنى القنصلية الإيرانية وغير ذلك من الحرائق والاندفاعات التي حاصرت وحاولت قطع الطرق عن الموانئ وآبار النفط وغير ذلك من الأماكن ذات الأهمية الاقتصادية والسياسية، ذلك المنحى الذي دعى الى انسحاب غالبية القوى التي بادرت لإطلاق تلك التظاهرات المطلبية المشروعة، حيث أعلنت عن تجميد نشاطها مؤقتاً، بعد أن أدركت مخاطر المسارب التي انحدرت اليها. مثل هذه النهايات تدعونا لاستنباط الدروس والعبر كي نسترد ما فقدناه طوال أربعة عقود من التوليتارية وعقد ونصف من حكم أحد أكثر الطبقات السياسية فشلا وفسادا وتخلفاً؛ أي لياقة الاحتجاج والتي أسس لها الرعيل الأول من الوطنيين العراقيين، حيث كان العراقيون في طليعة الشعوب التي دشنت مثل هذه الممارسات والأساليب الحضارية في الاعتراض وانتزاع الحقوق المشروعة. لقد شاهدنا حجم التشويه والاستغلال الذي تعرض له هذا الأسلوب الحضاري والحق الدستوري (ممارسة كل أشكال الاحتجاج السلمي) وكيف تحول بيد بعض الشخصيات الفاشلة من حطام المثقفين والسياسيين وبعض القوى المنخرطة بقوة بوليمة الفتح الديمقراطي المبين، الى وسيلة إضافية ومبتكرة في صراع الإرادات وتصفية الحسابات الضيقة على حساب المصالح العليا للوطن والناس. اننا بأمس الحاجة لثقافة الاحتجاج بوصفها منظومة قيمية مترعة بالمعاني والمعايير الضد، لما نخرج لمواجهته؛ أي شبكات وعصابات الفساد والإجرام وما يتجحفل معها من عقائد ظلامية معادية لحقوق الإنسان وحرياته التي دونها الدستور، لا أن ينضح عن التظاهرات والمشاركين بها، ممارسات وأعمال فوضوية، تشرع الأبواب أمام كل من هب ودب لاستباحة هذا الحق الدستوري وتحويله من نعمة الى نقمة..!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة