لم يُمتحن «محمول» لدينا مثلما امتُحن الضمير، فقد تساقطت العديد من قوائمه الى القاع، من دون دويّ، وحلت محله نشارة الخشب، وبلغ الامر عندما سألتُ أحد المسؤولين الصغار ما إذا يملك ضميرا في تعامله مع وظيفته، إبتسمَ حائرا، وعاد ليسألني: ما فائدة هذا الشيء.. املكه او لا أملكه؟»
يُعرّف قاموس «لالاند» المعتمد في المصطلحات الفلسفية، الضمير بانه خاصية العقل في إصدار أحكام معيارية تلقائية، أما اللاهوتيات فانها تقربه من الوجدان، وفي النتيجة، هو الصوت الداخلي، الرادع للظلم، المشجع على العدالة، حتى لو كانت باهظضة التكاليف على صاحبه.
لسنا اوصياء على ضمائر الناس. لكن المشكلة ان الضمير غدا، لدينا، واحدا من الممتلكات القابلة للبيع مثل اية سلعة.. وحقا لا أدري منذ متى أخذ هذا الوجدان بالتدهور الى الحضيض، لكن ادري انه منذ عقود بعيدة كان فاقد الضمير فاقد الشرف.
الآن، تستطيع ان تشتري أحد الضمائر، وتدفع، مثلما تستطيع ان تشتري كيلو بصل. والضمير الذي تشتريه يمكن ان يبلى فتلقي به الى سلة المهملات، مثل اي حذاء يعتق فتشمره الى حاوية الزبالة.
يا الله.. ماذا حدث لنا؟
حتى الان لا نملك مصدات وضعية تمنع عملية بيع وشراء الضمائر، فقط حين يسقط ضحايا لهذه النذالة، وليس ثمة بيع للضمائر (طبعا) لا يسقط بعدها ضحايا، وقد يكون ضحية ذلك قوت الشعب، او المال العام، او قطرة الحياء، او ساحة للعدالة، وقد يكون الضحية وطن باكمله.
الضمير لا يبيعه فقط المحتاجون الى المال او الطامعون بالثروة. ثمة من يدنس ضميره في الاعيب يضلل بها الجمهور لصالح فكرة غاشمة، او لشفاء غليل، او لعاهة من عاهات الشيزوفرينا.
في كل الاحوال، فان سعر الضمائر يحدده سوق التداول، وفي السياسة تنتعش هذه السوق، ولها تجار ومافيات وشاشات ملونة.
الضمير وازع، مانع، رقيب. ضابط، حين يغيب، أو عندما يصبح غيابه مقبولا وشائعا، فان ذلك يعني ان الأمة تواطأت مع حتفها، وسقط عمود منها في جاذبية الدناءات، ونأت عن التفريق بين ما هو حقّ وما هو باطل.
لحسن حظنا، ان اصحاب الضمائر كثيرون، وهم، قابضون عليه كالقابض على الجمر، سعداء بما يعانون، شامخون حيال الاغواء والبيع والشراء والتزاحم على الدبق، مقابل حفنة وضعت ضمائرها في السوق.
البعض يتحرك ضميره احيانا ليندم على فعل مخزٍ، لكنه سرعان ما يندم على انه ندم
الفراهيدي
«وخزة ضمير أثقل الساعات عليّ ساعة آكل فيها».
عبدالمنعم الأعسم