نهر المعاف

خولة جاسم الناهي

لم تكن سمكتي كبيرة ولكن فرحتي كانت الاكبر. اطبقت عليها طرف ثوبي الوردي الباهت. اول سمكة بهذا الحجم امسكها فقد كانت كل محاولاتي بصيد السمك لا تتعدى بضع سمكات بحجم الاصبع اصطادها بسلال الفاكهة والخضار واعيد رميها في النهر لأحصل مقابلها على امنياتٍ ثلاث، تغيرت احلامي عشرات المرات من حينها ولم احظ بسمكة الامنيات الذهبية بعد.
لكن سمكتي تلك كانت تلبط بحماس رغم آثار مادة « الزهر» المخدرة فيها، وقد أسعدني كثيرا امساكها وما كنت لاستبدل تلك الفرحة بأمنية طفولية سخيفة لو اعطيت ذلك الخيار الآن.
نادى عليّ جارنا: خذي مزيدا من الاسماك معك واحضري تستاً** او دلوا لحملها. ولكن تذكري ان لا تأكلوا راس تلك الاسماك.
وكرر كلامه اعتمد عليك يا صغيرة بحمل كل هذا السمك. وانا سألحق بابيك واعمامك لأعلى النهر.
مع وجود كل هذا السمك النائم بالنهر والرغبات اليقظة في اصطياده بدا لي كأني اعيش لقطة أحد افلام الغرب الامريكي (western) حيث كانت الناس تملأ الجدول الصغير بحثا عن الذهب.
مستوى المياه الضحلة عينه فقد كان النهر في حالة جزر، وذات منظر الماء الصافي. فوضع «الزهر» في النهر يستوجب ان يكون الجدول الصغير في حالة جزر وسكون جزئي ويتم غلق مداخل النهر بجذوع النخيل، اما أجمل خطوات صيد السمك هي صيده بكلتا اليدين او صيده بـ «الوهار» المصنوع من اغصان الشجر والذي يبدو كتنورة فساتين اميرات العصور الوسطى.
فكان الاطفال الصغار يمسكون صغار السمك والرجال يمسكون كبيره، وكلا سمكته تناسب حجم كفي يده، ما كانت سعادتنا بأكل ذلك السمك اصلا وانما بذلك الجهد الجماعي وذلك التجمع الكبير ومهرجان وطقوس المرح الموسمي المرافق له.
حتى بعد ان جف النهر وفاض من منابعه النفط بسبب توقف تصديره، مازلنا نعيش نفس ذلك الطقس الصيفي المقدس مع تغيير المقصد فذلك السمك الآن قد اصبح ضرورة ومصدر غذاء بعد ان فرغت جيوب الرجال ومخابئ النساء، سيكون السمك امتيازا حين يكون الخبز ترفا.. تغير الاسلوب والاوقات والمقاصد وحدها بهجة امساك السمكات بقيت كما هي مدهشة كإمساك حلم جميل واحتضانه.
هذه المرة ابنتي هي التي تحمل لي السمك، وابيها هو الذي يصطاده لنا بتوجيهات ابي وعمي (ابيه). حمل لي زوجي صينية كبيرة من ذلك السمك الطري وبمختلف الاحجام وهو فخور بهذا الانجاز العظيم، مؤونة شهر من الطعام او تزيد.
انهوا نصيبهم من العمل زوجي وبناتي الصغيرات والآن حان دوري لتنظيفه. فرحة الرزق كبيرة وخاصة تلك التي يستشعرها من حرم منها.
الاسماك التي يفترض ان تكون جميلة ومبهجة، كانت بشعة بقدر ما يحمل التشويه من خيبة، فسمكة بدون ذنبها واخرى بأربعة عيون وثالثة ملتصقة بأختها ورابعة .. ..ماذا حل بتلك السمكات وكيف طال التشويه جمالها تبا لتلك الاسلحة السامة، لم امتلك حينها الا البكاء وكأن رحمي قد جفت الحياة فيه، وبدأت بالصراخ بوجه زوجي: لن أنجب لك الولد الذي تريده، لا احتمل صدمة طفل مشوه، ولن ازيد على خيبات «نهر المعاف» خيبة جديدة!

  • نهر المعاف اسم أحد جداول شط العرب
    ** بالعامية المحلية «طشت»

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة