أثر المستترُ خراباً

إحسان ناجي

صباح جمعةٍ من آب.. رفيقي، لم يكن ميدانياً: خفير مبنى لخزن زيوت السيارات وأدواتها الاحتياطية، ذهب إلى الشورجة وتبضّع، وعاد بحقيبة سوداء كبيرة. أعرف أنه ابتاع ملابس أطفال ونساء وقطعة قماش مطرزة. وأعرف أنه يشاركُ المحلةَ، حماماتها ومراحيضها وشَرَفها وبائعي الخمرة فيها وشرطتها ومقهاها وشحاذيها، خرابها البارد، بيد أنه لا يتأخر عن غرفته التي تنتظره في الطبقة الثانية من بيت يهودي، ليلة ثانية. وأعرف أنه لا يملك ديناراً آخر لاستبدال حاله. الاعتمادُ على ساردينَ غيرهِ، يتلاسنونَ مع ذواتهم في النأي بمكانٍ أو الاحتفاظ بحيواتهم فيه، يشبهُ قطعةَ إسفنجٍ لمسح الطاولة في مطعمِ السمكِ عند الناصيةِ، وهو أمرٌ في غايةِ الوحدة.
* * *
كان يحدثني عن الزمن المحدودِ، هنا- أمامهم- «صبيحة» المدمنة على السباب والشارع، تتكئ، عمداً، بغنج على باب المنزل الخارجي شبه السابغ، وتفرج ساقيها عن وقفةٍ لذيذة. غضون وجهها يخفي أزمنةُ صعبة، فيما عيناها الواسعتان تبرقُان دهاءً. ومن الممكنِ لها، حتى اللحظة، اختراعُ طقس: زاوية من «أبو نواس»، موعدٌ تدخرُ له حزناً قديماً وشمساً ثقيلةً لا يليقان بها، وافتراض علبة ليل ساخنة، عندها. وهم لم يكونوا حذرين. وقتهم، بل جلّ ما يملكون، ملك قضبانهم الخشنة. لكنه لم يكن يتحدث عن «سنجار» أو يتابع أحداثها.

* * *

سيأتي قبلي، اليوم حتماً، وقبلَ أن يخرجَ إلى «أبو نواس» سيتركُ لي، كالمعتاد، رسالة. تأكدت من أن الموجودات الهشة في أماكنها، أقفلتُ بابَ الغرفة خلفي. هل أقفلتُ بابَ الغرفةِ؟، نعم.. لا… لا أذكر. صريرُ البابِ الذي كان انطبقَ على إطارٍ خشبيٍ أثيري مازالَ في رأسي. سمعتُ فعلَ المفتاحِ في الباب. لا.. لم تكن يدُ الأمس !. لليوم الثالث، لم تسألني صبيحة عنه، ولم تعد تخرج من غرفتها، لكنها قالت أنه ترك لي رسالة أعلى الباب الرئيس، وأوصاها أن لا يفتحها أحد غيري: «رتبتُ المكانَ للمرةِ الألف.. وإذا شئت تخلص من أغراضي. أرجو أن توفق في دفع أجرة مبيت لشخص واحد.»

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة