بالرغم من مناخات الغيبوبة والاغتراب عما يحيط بهم من مخاطر وتحديات، يدرك غير القليل من العراقيين مغزى ما ألم بهم من كوارث واهوال عندما تم سوقهم الى محارق قادسيات ذلك الذي انتشل مذعوراً من جحره الاخير. واليوم ووسط تصاعد وتيرة النزاع بين واشنطن وطهران، تطفح الى مسرح الاحداث مواقف وخطابات تدعو لتوريط هذا الوطن المنكوب وتحويله الى ساحة ورأس رمح لهذه المحرقة المقبلة. ومن دون ادنى وجع من عقل وحس ومسؤولية تجاه الوطن والناس، تصدر تصريحات لا من قبل جهات شعبية وعقائدية وحسب بل من شخصيات تستلقي على اعلى سنام المسؤوليات الامنية والسياسية والدبلوماسية، فوزير خارجيتنا على سبيل المثال لا الحصر يقول:”نحن بالضد من العقوبات الاميركية ونقف مع ايران” وقد سبقه في أكثر من ذلك مستشار الامن الوطني، ولم يفوت محافظ البصرة مثل هذه المناخات الحماسية ليذكر العراقيين بواجب الوقوف الى جانب من حارب معنا ضد داعش…
جميع المعطيات تشير الى ان العراق بوضعه الحالي، يعد المكان المناسب لانطلاق تكتيكات المواجهة الايرانية في نزاعها الحالي مع اميركا، والاخيرة تدرك جيداً ان ذلك لن يكون مناسباً لها، لما تمتلكه ايران من اوراق نفوذ هي الاهم والاكثر اقليمياً، وهذا ما عبرت عنه رسائل الهجمات الصاروخية التي طالت المنطقة الخضراء ومقر السفارة الاميركية، وما اعقب ذلك من اطلاق الكاتيوشا على حقول النفط واماكن تواجد القوات الاميركية في مدينة بلد وغير ذلك من المواقع الحساسة. صحيح ان الحكومة العراقية الحالية وعلى لسان رئيسها السيد عادل عبد المهدي؛ قد ادانت مثل تلك الاعمال ودعت الى الضرب بيد من حديد وغير ذلك من الخطابات التي تنطلق عادة في مثل هذه المواقف، الا ان تجسيد ذلك على أرض الواقع لن يختلف كثيراً عما سبقه من “صولات” لفرض سلطة دولة وقانون يقبعان في قعر اهتمام من تلقف مقاليدهما.
ان التطورات الاخيرة في الخليج وبنحو خاص بعد اسقاط الطائرة الاميركية المسيرة من طراز (غلوبال هوك) بصاروخ اطلقته قوات الحرس الثوري الايراني، يؤشر بوضوح الى المستوى الخطر الذي انحدرت اليه الازمة والى مدى الالم الذي تتجرعه طهران نتيجة تعاظم العقوبات. وهذا ما عكسته تغريدة الرئيس ترامب “ايران ارتكبت خطأ كبيراً” وهي لن تمر من دون عواقب وفواتير، ومن سوء حظ سكان هذا الوطن انهم سيجدون انفسهم في طليعة المتطوعين لتسديدها، رغم انف قبضات الحديد الحكومية المتوعدة. وكما اشرنا فالعراق يعد اليوم بمثابة الخاصرة الرخوة، والساحة المفضلة لتصفية الحسابات الاقليمية والدولية، وقد لعبت الطبقة السياسية المهيمنة على مقاليد اموره، دوراً كبيرا في تمدد وبقاء هذه الرخاوة والهوان، لذلك لا يمكن ان نلوم الدول الاخرى عندما تبعد عن تضاريسها ومصالحها الوطنية المخاطر والاضرار. وكل من يعرف قليلا عما يشغل عقل وفكر سكان بلاد فارس (افرادا وجماعات) لا يمكن ان يختلف على طبيعة الحس القومي المتشدد الذي يوحدهم في الموقف من وطنهم الام، وهم لن يبدلوا قرية صغيرة من قراهم لا بالعراق وحسب بل بدول الجوار جميعها، وهذا ما لن يتجرأ على فك ابجدياته المنحدرون من رحم القادسيات والرسائل الخالدة وعنترياتها التي عصفت بكل ماهو جميل في هذا الوطن القديم…
جمال جصاني