(قبل نهاية العالم بدقيقة) والتركيز على الهم الاجتماعي

علوان السلمان

…القصة القصيرة موقف مؤطر باطار الحياة الكاشف عن ادق الدلالات النفسية والعلاقات الاجتماعية، كونها عالم مبني على استلهام الوقائع والاحداث التي يقتنصها قاص بارع يمتلك قدرة على استبطانها والخروج بها من دائرة الحدث الطبيعية الى عوالم الشمولية، كونها نسج فني لمشهدية تمثلت بحدث، و اعتمدت التكنيك الفني المتحرك ما بين الزمكانية وحركة الشخوص والكشف عما يدور بدواخلها باستخدام اسلوب الحوار (الداخلي حوار الذات والنفس، والخارجي المتمثل في حوار الشخوص، انها تعبير عن الواقع المتداخل مع الخيال لتشكيل وظيفتها الايحائية.. ومن ثم تحقيق المتعة والمنفعة في نفس المتلقي، اضافة الى تحقيق وظيفة جمالية من خلال قدرة القاص على تحريك الواقع وتفجيره عبرالوعي والخزين المعرفي…
وباستدعاء المجموعة القصصية (قبل نهاية العالم بدقيقة) التي نسجت عوالمها النصية انامل القاص باسم القطراني…. بعنوانها المكاني الذي يكشف عن التحليق برومانسية عن طريق الحلم وهو مستل من احدى القصص، التي احتضنتها دفتي غلافها والتي اشتملت على أربع وعشرين قصة تراوحت ما بين القصيرة والقصيرة جدا، وهي مركزة على الهم الاجتماعي كمحرك فاعل ومؤثر في الواقع الاجتماعي داخل بنية النص القصصي الذي يحدد الوعي الاجتماعي.
(ليس بوسعك ان تقبض على لحظاتك السعيدة كلها) ليتني تعلمت ذلك جيدا، فتحت عيوني لاحقا فأدهشني ان ارى شارعنا يركض خلف السيارة التي اقلتنا..هل كنت وحدي من أبصر كل هذا؟ لا أدرى غير انه كان يركض ببيوته المتواضعة واهله الوادعين، يركض ويقع أحيانا، وخلال ذلك كان الناس والبيوت يتعثرون ويقومون وكدت امسك بهم واشم روائحهم واسمع قهقهات الصبية وهمهمات الشيوخ والعجائز، يا لهذا الالم المعبأ في الدروب.
رويدا رويدا كان شارعنا لايقوى على اللحاق بالسيارة التي ابتعدت كثيرا، فأحسست به ينسرب من بين اصابعي مثل طيف شفيف لامس جبهتي فشعرت ببرودة خفيفة اخذتني على أثرها اغفاءة.
في بيتنا الجديد الذي كرهته منذ الوهلة الاولى رحنا نرتب اغراضنا في غرفه المتواضعة، وحين تفقدت كتبي ودفاتري المدرسية وحاجاتي الخاصة صحت فزعا: أين سبينوزا؟
بحثت عنه وقلبت اغراضنا رأسا على عقب فلم اجده، يبدو باننا نسيناه في قفصه مركونا فوق الرف الخشبي في زاوية من زوايا البيت) ص8 ـ ص9،
فالنص يعبر عن الواقع المتداخل مع الخيال لتشكيل وظيفته الايحائية، ومن ثم تحقيق المتعة الجمالية والمنفعة الفكرية من خلال قدرة السارد على تحريك الواقع وتفجيره من خلال الوعي والخزين المعرفي، اضافة الى انه يسجل الانفعال السريع لحركة الواقع بشخوصه واحداثه المتسارعة، ويرصد تحركاته وتحولاته ومتناقضاته الممزوجة بخيالات تخلقها لغة موحية..مكتظة بصخب الحياة..لذا فالقاص يقدم حبكة درامية متشكلة من مشاهد متفاوتة لخارطة الوجود بكل علاقاته الاجتماعية فتكشف عن دواخل شخوصها من خلال انفعالاتها وتفاعلاتها في البيئة والحدث وتوتراته..فضلا عن انه يبدأ من مستوى الوعي ولكنه يغيب في مشاهد ويغوص داخل مستوى اللاوعي ليكشف عن الوهم الذي يتحرك والواقع التاريخي.. لذا كان يسجل تفاصيل الحياة ويتعامل مع العادي ليشكل همها، وبالرغم من ذلك فانه لا يتجرد من دفئه ولحظته المشبعة برائحة الحياة.
(شعرت بخيبة مضاعفة وصعقتني فكرة مغادرة الطائر الاعمى وحيدا في فناء بيت فارغ، كان ببغاء صغيرا اشتراه لي اخي الاكبر قبل سنة من سوق الجمعة، صاحبه باعه بسعر زهيد كونه اعمى لا يحسن التقاط حبات القش الا بمشقة..غير انه كان جميلا تتشابك ريشاته الحمر والصفر والزرق والخضر مثل لوحة باذخة الجمال وقد اطلقت عليه انا اسم(سبينوزا) بعد ان شاهدت واحدا بهذا الاسم في احد الأفلام، لقنته كلمات حفظها سريعا وراح يرددها باستمرار..
ذات مرة صفعني ابي قائلا: ابن المكرود تريد ان تهلكنا
لماذا؟
اسمع ماذا يردد هذا الاعمى، سوف انتف ريشه
وكان ينادي:(يسقط يسقط)
ابتسمت وقتها وفررت من بين يدي ابي الغاضب
اشتدت بي الكآبة ولم يغادرني التفكير بمصير صديقي الاعمى وحين طلبت من ابي ان اذهب معه لاستعيد طائري نهرني بشدة قائلا: الشباب يعدمون والدنيا مقلوبة راسا على عقب وانت تفكر بمصير ببغاء) /ص9 ـ ص10
فالنص يعتمد الحكائية في ترتيب الاحداث وتفاعلها وتناميها بخطابها السردي الذي يتسم بواقعية تسجيلية تتميز بالحركة مع اتساع مساحات المكان ورصد الموقف الاجتماعي..لذا يمكن عد هذه المجموعة اشتغالا سايكولوجيا انطلاقا من معطيات الشخصية وسلوكها النفسي وتحولاتها..مع نمو الفعل السردي بشكل يتجاوز الرتابة والوصفية الاستطرادية، مع تماهي النص والحس الانساني عبر مشاهده التي تترجم المشاعر انطلاقا من تصوير الجزئيات والتركيز على المفارقة المتناغمة والبناء الدرامي من خلال فاعلية التتابع الصوري النابع من معطيات واقعية لتقدم اضاءة جمالية تسهم في نبش الخزانة الفكرية للمستهلك..
بالاتكاء على لغة تمتلك دلالاتها لخلق تركيبة مكونة من الحلم المتداخل مع الواقع، ليضفي السارد على نصه تسجيلية تمتلك قدرتها على التقاط اللحظة العيانية باستخدام اسلوب التصوير السريع للمشهد والاستعاضة عن النقص في الجانب الحياتي، لذا كانت قصصه تسير بنسقين متداخلين اولهما واقعي، وثانيهما تخييلي، فضلا عن جمع السارد في تجربته بين تيار الوعي وتجريد المشاهد، لذا فهي لا تعتمد الرتابة والجمود، كون شخوصها نامية، مكتنزة بوعيها الاجتماعي وانفجار هواجسها بالحيوية والدرامية، وهذا يعني تحقق حضورها من زوايا متعددة فتؤلف مشاهدا تمكن القاص من اقتناصها بحسه ومتابعته الذهنية للعثور على موقف يحققه لذاته بعيدا عن الشخصية القصصية.
اما قصصه القصيرة جدا فقد حققت مضمونها وتركت أثرها في نفس متلقيها بايجازها وتكثيف ثيمتها السردية وضربتها الاسلوبية الادهاشية…فكانت نصوصا تأملية خارج نطاق الذات بلغة ايحائية الحس حتى بلوغ لحظة المفاجئة التي تتمركز فيها قوة الدلالة، فهو في قصصه (وهم وخيبة ولعبة) يحاول تكثيف افكاره بالرمز مع امتلاء المعنى ببراعة شاعرية ولغة تختصر مسافة الزمكانية صوب حكمتها المقصودة.
(ذات مساء موغل بالدهشة والحنين شيعت احلامي لمثواها الاخير..انتبهت متأخرا انني كنت لوحدي وسط هذا الكرنفال الحزين..فجأة سمعت صوتا يصيح:انتظر قليلا فلربما تمطر السماء وستجد كل من حولك يبكي معك..) ص93.
وفي قصة(روبوت) يقتنص القاص اللحظة الحياتية ليصورها ببناء محكم التماسك بدقة وتناسب في اختيار المفردات مع فعل درامي خاطف، فكانت لوحة مقطوعة من مشهد واقعي.
اما في قصته (قبل نهاية العالم بدقيقة) التي يتجاوز فيها القاص ليشكل تركيبة من الحلم المتداخل مع الواقع باعتماد الرمز كاسلوب واللحظة الحالمة وتصويرها بلغة مكثفة تستغني عن التفصيلات وهي متكئة على لغة دلالية اشارية.
(في الحال اخذت معولا وخرجت ابحث عن قطعة ارض رخوة كي انفذ من خلالها الى العالم السفلي، وسريعا اهتديت الى بغيتي ورحت احفر فيها واولادي قد تجمعوا حولي ومع شدة لهاثي والعرق المتصبب من جبيني كانت الحفرة تتسع وتتعمق ولاحقا اصبحت تسعني وتناسبني جدا.
ـ كم تبقى من عمرنا، قلت مرعوبا.
ـ خمس دقائق فقط
ياه، هل أبدو صغيرا الى هذا الحد، فلقد سقطت من بطن امي للتو..
وفي الحال قفزت الى حفرتي وتمددت فيها وطلبت منهم ان يهيلوا على جسدي التراب الاخير دون تراتيل معتادة مع الدقيقة الاخيرة من وقتنا المنسرب بسرعة قصوى..وحسنا فعلوا اذ نفذوا وصيتي حرفيا..وراح جسدي يستقبل ذرات التراب بشراهة غير معهودة حتى غمرني بالكامل..
أنتظر…أنتظر..أنتظر..ويكاد يقتلني الانتظار..) / ص78 ـ 79.
فالنص يكشف عن الذات المغتربة وحسها الحلمي بجمله المتوهجة التي تتضمن أكثر من معنى وفق معيار هندسي وهي حاملة بين طياتها طابع الدهشة والمفارقة مع تكثيف المعنى بالابتعاد عن الاستطراد الوصفي باسلوب غرائبي مستفز للمستهلك.
من كل هذا نستنتج ان النص عند القطراني يتشكل من مجموعة من التداعيات التي تتوظف بقصدية لتعطي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهنه..حتى ان النص القصصي يصير عنده قطعة من حياة متحركة بمشاهدها التي تكشف عن وعي سردي.. وتعلن عن نص (ذو اصول شعبية) على حد تعبير باختين.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة