في إحدى قصصه الرائدة يروي الكاتب الروسي العظيم (تشيخوف) حادثة جرت في إحدى القرى الروسية في القرن التاسع عشر، حينما أقدم الفلاحون على الإغارة على مدرسة، شرعت الدولة ببنائها للصغار. فنهبوا الحديد والأحجار، وعبثوا بموقع العمل، وطفقوا يضعون العقبات أمام العاملين في المشروع.
كان هدف تشيخوف من ذلك بيان حال الريف الروسي، وضعف الوعي الاجتماعي فيه. وما كان يغرق فيه من تخلف وجهل وأمية، إلى الحد الذي بات الفلاحون فيه يتخوفون من العلم، ويتطيرون من المدارس، ويتأففون من الحضارة. وربما كانوا يظنون أن التغيير الذي سيطال حياة الصغار يهدد مستقبل القرية، وينذر بفقدان تقاليدها العريقة، وثقافتها المتوارثة.
مثل هذا الموضوع لم أستغربه أبداً، فقد شاهدت عبر الشاشات الفضية كيف سارع العمال في بلادنا إلى هدم أماكن عملهم، وكيف انقض الفلاحون على حقول مزارعهم، وكيف أضرم الأهلون النار في الوزارات ودوائر الدولة. وكيف عبث الشبان بسجلات النفوس والعقار وسواهما في عراق ما بعد 2003، في ذروة احتفالهم في الخلاص من هيمنة الدولة.
لم يكن مثل هذا الأمر في حينه مؤذياً للعين، صادماً للعقل، فحسب، بل كان مستفزاً للضمير أيضاً. ولا أعلم إن كان أولئك الذين قاموا بهذا الفعل نادمين الآن على ما فرط منهم، عقب هذه السنين. وبعد أن أصبحت تلك الأماكن المستباحة أثراً بعد عين، وأضحت البطالة بسببها ظاهرة مستديمة. وربما مازالوا يعانون من آثارها حتى هذه اللحظة.
قد تكون المقارنة محزنة بين الاثنين. فالروس مروا بذات الحال التي يمر بها العراقيون الآن، قبل أكثر من قرن من الزمان، وتجاوزوها بعد ذلك ببضعة عقود. وإذا كانت الظروف قد تغيرت نوعا ما في العراق، إلا أن السلوك المجتمعي لم يتغير كثيراً. فقد تحول النهب العشوائي للمؤسسات والشركات والدوائر الحكومية، إلى النهب المنظم للمال العام. ولم يخل الأمر من قليل من الضوء الذي يبدد عتمة الطريق. فقد قام بعض موظفي الدولة بحماية مؤسساتهم من اللصوص، ودفع عدد منهم حياته ثمناً لذلك. كان أولئك يمثلون الطليعة التي حاولت تقديم صورة مغايرة للواقع في تلك الأيام.
ثمة أمور كثيرة حدثت منذ تلك الحقبة، لم تزل محفورة في ذاكرة الناس. كانت مدرسة تشيخوف مقدمة لثورة عارمة، اجتاحت الريف الروسي وحولته إلى واحد من أكبر منتجي الغذاء في العالم، وبات أبناؤه ينعمون بنظام تعليم متطور. أما المجتمع العراقي فمايزال أسير تقاليده القبلية الصارمة، التي حرمته من نعمة التغيير. وجعلته عاجزاً عن الاضطلاع بدور مهم في المنطقة. وهو إذا ما أراد أن يفعل ذلك فعليه أن يبدأ خطوات جدية تستوعب ما جرى في العالم من تقنيات. ويبدأ بالإعداد لمرحلة أكثر استنارة، وأشد تأثيراً من أي مرحلة أخرى مر بها على امتداد التاريخ.
محمد زكي ابراهيم