حسين السلمان
حتما انحسرت مشاهدة افلام البلدان الاوروبية بفعل الاكتساح المذهل للسينما الامريكية التي استطاعت فرض هيمنتها بشكل ساحق على دور العرض العالمية ..ولكي نخرج من هذا الحصار الخانق ارى ضرورة التوجه وبالنقد في اقل تقدير الى ما هو حاصل في حركة الاشتغال السينمائي في السينما الاوروبية.
تقف السينما الفرنسية في مقدمة السينما الاوروبية منذ الانطلاقات الاولى للسينما. وهذه الانطلاقة لم تكن مرهونة بالتاريخ فقط بل شملت مجمل العملية الابداعية منذ حركة الموجة الجديدة الى اليوم.
واحد من ابرز المخرجين الفرنسين المعاصرين هو (ليوس كاراكاس) الذي يثير جدلا واسعا في الوسط السينمائي. وقد توج جدله هذا بفيلمه الذي سجل به حضوره السينمائي وهو (بلوز مخنوق1980، ويستمر في تأكيد اسلوبه الابداعي الخاص في فيلمه (دم فاسد 1986) حيث يذهب الى اشتغال بصري عبر موضوع يتناول الحب والحرية فيكشف كل المجاهيل التي تعيشها مجموعة من الشباب المعاصر عبر تشردهم وسلوكياتهم ومعاناتهم التي كانت سببا في تسربلهم في محيط فاسد. هنا تظهر القدرة الكبيرة للممثلة (جوليت بينوش) بذلك الاداء الساحر والتي ظلت مساندة للمخرج (كاراكاس) في افلامه القادمة ويتجسد اداؤها الجميل في فيلم (عشاق على الجسر) حيث ساندت المخرج بعد الازمة الانتاجية التي عاشها مع منتج الفيلم واستطاعت دعمه من اجل ظهور الفيلم بالمستوى الذي يريده.
استخدم المخرج هنا اسلوبية جديدة تثير امتدادا وتأكيدا لأسلوبه السابق، فالحكي في الفيلم اختلف عما هو مألوق في السرد السينمائي حيث يذهب بعيدا عن اشتراطات السيناريو التقليدي، فالفكرة غير مسبوقة والاحداث ولدت غريبة، فكل شيء هو لذوات مهمشة مشردة تختنق داخلها مشاعر حبيسة لشخصيات مسحوقة لكنها متمردة بعنفوان كبير .المخرج يعمل من خلال هذا لتثبيت اسلوبا متميزا فيه بعض من ملامح الموجة الجديدة لكنها بطريقة مبتكرة .وقد تعامل بدقة في قيادة الممثل طبقا للمفاهيم الجديدة للأداء السينمائي. وقد تألقت(بينوش) بذلك الاداء الجميل الذي جعل منها تختطف الاوسكار عن فيلمها (المريض الانكليزي) وهو دور يعد من الادوار الجديدة لممثلة فرنسية بذلك الاحساس المتدفق في المشاعر الصادقة التي من خلالها تقترب، بل تدخل النفس البشرية بكل ترحاب وارتياح.
واحدة من مميزات المخرج (كاراكاس) ابتعاده عن الايقاع السائد في المجتمع الفرنسي الذي كان حاضرا في أغلب الافلام التي سبقته، وهو بهذا تميز عن زملائه بخاصية مهمة وهي الطرق على الهامش من خلال مواضيع تنبع من الحب والموت والعنف والجريمة، وهذه جميعها محكومة بدوائر معينة من الياس والشك والتشاؤم، جاءت هذه الاضافة السينمائية من عزلة كبيرة فرضها المخرج على نفسه بعيدا عن مخالطة جيله السينمائي بحثا عن أسلوب خاص من خلال مراجعة شاملة للحركة السينمائية الفرنسية.
ولهذا فانه حين تقدم بفيلمه (دم فاسد)، الذي يعد تحفة سينمائية فرشت ظلالها على حركة السينما الفرنسية وشكلت صرخة قوية في الوسط السينمائي العالمي باعتبارها حركة بصرية تعتمد على بعدها الدرامي وعلى تحشيد عناصر لغوية سينمائية تفيض متعة وانزياحا واسعين في مجالي كتابة السيناريو وأصول الاخراج السينمائي. وتأخذ هذه الخاصية بعدا اضافيا عند مجيء فيلم (عشاق على الجسر) 1991ليؤكد حقائق جديدة تجعل منه فيلما مثيرا للجدل في العديد من مفاصل الاشتغال السينمائي، حيث ظهر الفيلم بتلك النغمة الشعرية من حيث موسيقى الحدث الدرامي التي تزامنت مع الحشد الهائل من الديكورات الضخمة وتنوع هائل في اختيار الموسيقى القادمة من الموروث الانساني وحتى اغنيات فيروز كانت حاضرة في الفيلم.
وقد أكد المخرج هنا قوله حينما أستلم جائزة جمعية نقاد السينما في لوس انجلس حيث قال(السينما لغة اجنبية صنعت لمن يرغب في السفر الى الجانب الاخر من الحياة ).وحقا استطاع تأكيد قوله هذا في فيلم( عشاق على الجسر)حيث رآى الجانب الاخر من الحياة عبر انقلاب كامل في قصة حب بعيدة عن السرد التقليدي ، فالحب هنا من دون أمرأة حسناء ورشيقة مثيرة ولا شاب وسيم و لا قصة تحكمها التضحية والوفاء، أنه يقدم كمل ما هو مقرف، مشوؤم في الحياة لكنه من الجانب الاخر يقدم ضفة الجمال التي يدعو لها ، فهو مخرج رومانسي بحق قادر ان يجعل المشاهد يشعر بالحب والسعادة في قصة فيلم لا تعرض ذلك ابدا .أنها القدرة السحرية التي يمتلكها المخرج في السيطرة على مشاعر واحاسيس المشاهد ،ولهذا فان المخرج أوقعنا في الحب من حيث ندري اولا ندري طبقا للسياق الدرامي والافكار التي يبعث بها الى المتلقي لأنه يرى الحياة ببعدها الجمالي الكبير، فالمخرج الذي هو ايضا كتب النص ايضا، يقدم حكايته عبر ثلاثة شخصيات ضمن حركة دقيقة لسير الاحداث التي أثارت العقل كما لامست الاحاسيس والمشاعر لتضعنا أمام حالة إنسانية تتمتع بعذوبتها وصدق مشاعرها ونبل أفكارها.