آنا بورشفسكايا
لطالما تودّدت روسيا إلى دول الخليج العربي، وخلال السنوات القليلة الماضية وسّعت رقعة تواجدها في القرن الأفريقي أيضاً. لكن يبرز الآن عامل مشترك بين هذه الأنشطة التي تبدو غير مترابطة، ألا وهو سعي موسكو إلى النفوذ والنفاذ في منطقة البحر الأحمر بهدف تعزيز طموحاتها كقوة عظمى على حساب الغرب.
وفي هذا الإطار، أجرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مطلع آذار/مارس جولة في دول الخليج، اجتمع خلالها بكبار المسؤولين في عواصم قطر والسعودية والكويت والإمارات. وتطرقت المحادثات إلى كل شيء بدءاً بالتجارة مروراً بكرة القدم ووصولاً إلى سوريا والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني والأمن في المنطقة. وأشارت صحيفة «كومرسانت» الروسية اليومية إلى أن هذه الرحلة كانت مقدّمة لجولة خليجية محتملة سيجريها الرئيس فلاديمير بوتين في وقت لاحق من هذا العام.
وبعد أيام من رحلة لافروف، أرسلت موسكو مبعوثها الرئاسي الخاص إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف للاجتماع بالرئيس السوداني عمر البشير – مجرم حرب مطلوب في الغرب. وما إن وصل إلى هناك، دعا بوغدانوف الرئيس البشير للمشاركة في القمة الروسية-الأفريقية المقبلة -وهي الأولى من نوعها، المقرر عقدها في تشرين الأول/أكتوبر. بعد ذلك، توجّه المبعوث الروسي إلى جمهورية أفريقيا الوسطى المجاورة من أجل تأكيد دعم موسكو في القضايا الأمنية وتوطيد الروابط الثنائية.
وطوّقت جولتا بوغدانوف ولافروف منطقة البحر الأحمر التي لا يمكن المبالغة في أهميتها، إذ تقبع المنطقة عند تقاطعات بحرية متعددة، ومن شأن بسط النفوذ فيها أن يسمح بامتداد القوة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق البحر المتوسط – وبالتالي الحدود الجنوبية لحلف «الناتو». ومع مرور الوقت، قد يسفر ذلك عن توسيع روسيا نطاق أنشطتها في قناة السويس وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي.
ولم تكن الجولتان الدبلوماسيتان لهذا الشهر سوى أحدث مثال على سعي موسكو إلى إشراك وربط القرن الأفريقي ودول الخليج. ففي أيلول/سبتمبر الماضي، أعلن الكرملين عن خطط لبناء مركز خدمات لوجستية في إريتريا، وقد ساعدت الإمارات في تسهيل هذه الخطوة من خلال الاضطلاع بدور مهم في اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا، مما أنهى فعلياً عزل هذه الأخيرة الذي دام عقداً من الزمن. وليس من قبيل الصدفة أن يقع أهم مرفأين في إريتريا، عصب ومصوّع، عند نقاط استراتيجية على البحر الأحمر. وجاءت خطوة مركز الخدمات اللوجستية في أعقاب إعلان موسكو أنها وقّعت اتفاق تعاون عسكري مع جمهورية أفريقيا الوسطى.
أما بالنسبة للسودان، فقد بدأت روسيا توطّد علاقاتها مع هذا البلد المضطرب في أواخر عام 2017 (إن لم يكن قبل ذلك)، حيث سعى البشير إلى الحصول على «حماية» بوتين من الولايات المتحدة وعبّر عن دعمه لمساعي موسكو في سوريا. وتتحدث مصادر روسية الآن عن دأب الكرملين لإنشاء قاعدة له في السودان.
في الموازاة، وعلى خلفية حضّ روسيا لحكومات المنطقة على إصلاح العلاقات مع النظام السوري، زار الرئيس السوداني نظيره السوري بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر، ليكون أول زعيم عربي يقوم بهذه الخطوة. وقد أسهم اللقاء في تلبية حاجة الأسد إلى الاعتراف بنظامه فضلاً عن تطلعات البشير الشخصية في الحصول على دعم من دول الخليج، مستفيداً من الزيارتين اللتين قام بهما إلى أبو ظبي والرياض في عام 2017.
من جهتها، سعت دول الخليج إلى تأكيد مكانتها في أرجاء القرن الأفريقي خلال السنوات القليلة الماضية، حيث أنشأت مراكز عسكرية وتجارية في المنطقة. وفي حالة الإمارات، برزت العديد من هذه الفرص التجارية في مناطق مهمة بشكل خاص لروسيا. ورغم أن البعض قد يتساءل ما إذا كان هذا يعني أن دول الخليج تتنافس مع روسيا على النفوذ المحلي، إلا أن التعاون يسود بدلاً من التنافس. فقد عزّزت موسكو تواجدها في أفريقيا خلال الفترة نفسها ووقعت اتفاق شراكة استراتيجية مع أبو ظبي في حزيران/يونيو الماضي. وكان بوتين قد حشد زخماً تجاه إبرام اتفاقات مماثلة على مدى سنوات عديدة، منذ أن زار السعودية وقطر والإمارات في عام 2007 -في خطوة غير مسبوقة لرئيس دولة روسي.
وينبع اهتمامه الشديد بتنمية العلاقات الرسمية وغير الرسمية مع المنطقة جزئياً من الحاجة إلى ضمان الحصول على استثمارات خليجية وبالتالي إنقاذ اقتصاد روسيا المتعثر. ويشمل ذلك زيادة اهتمام قادة الخليج في السلاح الروسي، والتشجيع على إبرام اتفاقات مع صناديق الثروة السيادية التي من شأنها تعزيز أجندة موسكو فضلاً عن تنظيم مجالس أعمال ومعارض جوالة تكون بمثابة منابر للصفقات التجارية الروسية-العربية.
وللمفارقة، فإن تدخل بوتين في سوريا أكسبه احتراماً على مضض في أوساط قادة الخليج أيضاً -برغم معارضتهم الشرسة في بادئ الأمر لمسعى الحرب الذي يبذله نظام الأسد وعلى الرغم من واقع اصطفاف روسيا أساساً إلى جانب المحور الإيراني-الشيعي الذي يخشونه كثيراً. وفي حين أظهر الغرب تردداً لسنوات في سوريا، إلا أن بوتين رفض المساومة وأبقى الأسد في السلطة. والآن بعد أن عجّلت الولايات المتحدة على ما يبدو انسحابها من المنطقة، يبدو أن دول الخليج ترى أن خيارها الوحيد يتمثل في التعامل مع الأسد وبوتين. وبالفعل، سبق أن أعادت كل من الإمارات والبحرين فتح أبواب سفارتيهما في دمشق، ويتطلع القادة إلى أنشطة موسكو في سوريا ساعين إلى التعاون بدلاً من المواجهة.
وبخلاف دول المشرق، لا تزال منطقة البحر الأحمر تعجّ بالقوى العظمى، لذا فإن بروز موسكو فيها لا مفر منه بأي حال من الأحوال. على سبيل المثال، تحتضن جيبوتي مراكز عسكرية أميركية وصينية وفرنسية وإيطالية ويابانية، غير أن موسكو لم تضمن قاعدة لها هناك رغم المحادثات الأخيرة الرامية إلى تحقيق هذا الهدف. مع ذلك، كان تمركزها في سوريا بمنزلة نقطة انطلاق لتوسيع رقعة أنشطتها في المنطقة، بدءاً من جمع المعلومات الاستخباراتية وإدارة التدخل العام ووصولاً إلى إطلاق مبادرات محددة على غرار المناورات التدريبية لمكافحة القرصنة في آب/أغسطس الماضي في خليج عدن. وليس من قبيل المصادفة أن تكون مجموعة المرتزقة الروسية الغامضة «فاغنر» قد ظهرت وفقاً لبعض التقارير في جمهورية أفريقيا الوسطى في أواخر عام 2017 بعد أن كانت تنفّذ سابقاً عمليات في سوريا.
وأخيراً، إن جلّ ما يفعله نمط فك الارتباط من المنطقة الذي تنتهجه واشنطن هو تسهيل تدخل بوتين فيها. فمواصلة هذا النهج محفوفة بالمخاطر لا سيما في يومنا هذا، بما أن رحلات بوغدانوف ولافروف في آذار/مارس قد تكون بمنزلة مؤشر على المرحلة التالية من طموحات روسيا في المنطقة: وعلى نحو خاص، بسط تواجدها من شرق البحر المتوسط وصولاً إلى خليج عدن وإنشاء ممر أعمق نحو أفريقيا، بمساعدة من منطقة الخليج.
آنا بورشفسكايا زميلة أقدم في معهد واشنطن ومؤلفة مشاركة لدراسته الأخيرة، «الدعاية العربية التي تقوم بها روسيا – ماهيتها وأهميتها».
معهد واشنطن