كريستيان رويس سميت
عرض: آية عبد العزيز
ما تزال مدارس الفكر الرئيسة في العلاقات الدولية متمسكة بمفاهيمها القديمة في تحليل التطورات الدولية التي تتعلق بالجانب الحضاري والثقافي، بالرغم من التطورات المتلاحقة في هذا الجانب إلا إننا حتى الآن لم نشهد تحول في نهج العلاقات الدولية ومفاهيمها.
فقد أضحت الثقافة تلعب دورًا بارزًا مع صعود القوى العظمى غير الغربية، وعودة النزعة العرقية، والتطرف العنيف الذي يتم تبريره باسم الدين، علاوة على ظهور قوى اليمين الأبيض العنصري. ومع ذلك، فإن أولئك الذين يجب أن يكونوا في وضع أفضل لتفسير ذلك -علماء العلاقات الدولية -غير مهيئين للقيام بذلك، كما إنهم يركزون فقط على الأبعاد المادية وعناصر القوة بدلًا من السعي لمحاولة التفكير؛ حيث تكمن المشكلة الحقيقة في تراجع اهتمام المُنظرين في حقل العلاقات الدولية بالمفاهيم الخاصة بالثقافة لأنهم ينظرون لها بوصفها جزء منفصل عن العلاقات الدولية ومجال اهتمام لعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع.
في المقابل، هناك وجهة نظر اخرى ترى أن الثقافات كأشياء متماسكة: بوصفها متكاملة بإحكام، ومحددة بدقة وبنحو متميز. وعليه فالثقافة تسهم في خلق مجتمعات أكثر وعيًا، لأنها تساعدهم في معرفة هويتهم، وتجعلهم يحددون ما يريدون وكيف يفكرون، التي تقوم عليها المؤسسات الاجتماعية، اذ أن الوحدة الثقافية هي التي تصنع المجتمعات القوية التي تستطيع أن تقود بلادها، بما يتوافق مع مصالحها الوطنية، وهو ما تجسد بشكل جلي في حملة Brexit، ووحدة الشعب البريطاني ضد سياسات الاتحاد الأوروبي، وحملة الرئيس الأميركي «دونالد ترامب» التي تمكن من خلالها الفوز في الانتخابات التي انطوت تحت مظلة «اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى»، وإضافة إلى تعالي الأصوات لعودة روسيا كقوى عظمى، والقومية الكونفوشيوسية في الصين.
وينظر الآن إلى الثقافات على إنها غير متجانسة ومتناقضة، ومتشابكة بعمق. وقد أثبت علماء الأنثروبولوجيا المؤرخون ذلك على مستويات محلية، كما حاولوا الكشف عن السياقات الثقافية غير المتجانسة.
ما تزال النظرة القديمة غير الموثوقة للثقافة مستمرة
ما تزال النظرة القديمة المشكوك فيها للثقافة مستمرة لأن المفهوم الافتراضي لـ العلاقات الدولية في المدارس الواقعية يكمن في جوهره الجانب المادي، لكنهم كثيرًا ما يقدمون حججاً تعتمد على الافتراضات الثقافية. ويصفون أنفسهم بأنهم يدرسون مجموعات الصراع، وعندما نتحقق من طبيعة هذه المجموعات، تظهر عادة كوحدات ثقافية: ودول قومية ذات شخصيات وهويات ومصالح قومية. ويمنح النظام الدولي الفوضوي الدول بعض المصالح الأساسية -وبصورة أساسية البقاء -لكن الثقافة القومية عادة ما تعد مصدرًا رئيسيًا لمصالح أخرى.
ويعترف العديد من الواقعيين بأن النظام الدولي اليوم يعتمد على الشرعية، التي تتمثل في تمسكهم بقيم الحضارة الغربية، التي توفر القواعد التي ترتكز عليها المؤسسات الحديثة وتدعمها. وبالنسبة لوزير الخارجية السابق هنري كيسنجر وآخرين، فإن تآكل هذه المؤسسة الثقافية يشكل تهديدًا أساسيًا. وتساءل كيسنجر في كتابه «النظام العالمي» كيف يمكن «للمناطق التي بها ثقافات متباينة وتاريخها ونظرياتها التقليدية أن تدلل على شرعية أي نظام مشترك؟».
وبالرغم من أن نظرية الاختيار العقلاني قد تبدو بعيدة عن الثقافة إلا إنها تتداخل معها؛ حيث يرى العقلانيون أن المعايير والقيم والممارسات الثقافية مصدر رئيس لهذه المعرفة، وبالتالي فإن الثقافة المشتركة مهمة لحل مجموعة متنوعة من مشكلات التنسيق التي يتناقلها الممثلون كل يوم. ويركز معظم العقلانيين على مشاكل التعاون المحددة. هنا يُبرز الادعاء المألوف «إن المجتمعات المتجانسة ثقافياً، والتي تعتبرها أساسها، أكثر ملاءمة لحل مشكلات التنسيق من المجتمعات المتنوعة».
وقد يبدو من الظلم توقع الواقعية والخيار العقلاني ليكونا مواكبين للتفكير الحالي في الثقافة: ومع ذلك، فإن البنائية تنظر إلى الثقافة على أنها عمل أساسي، لم يعدا أفضل حالًا. وتتمثل الفرضية الأساسية للبنائيين في أن المعاني المشتركة -الأفكار والمعايير والقيم -تجعل العالمين الاجتماعي والطبيعي معروفين. وكثيراً ما يصف البنائين هذه المعاني بأنها «ثقافية». من حيث المبدأ، فإن هذا الاتجاه متوافق تمامًا مع المفاهيم الحالية للثقافة باعتبارها غير متجانسة ومتناقضة. ومع ذلك، فإن المحوريين الرئيسين للبحوث البنائية تسند إلى حد كبير من هذه المفاهيم.
يركز المحور الأول على المعايير الدولية: كيف تظهر وكيف تشكل هويات ومصالح وسلوك الدول والجهات الفاعلة الأخرى. يصنف المحور الثقافة، ويقسمها إلى معايير فردية ثم يدرس آثارها السببية. ولكن على الرغم من أن الثقافة لا تعامل ككل متماسك ومحدود، إلا أن التعقيد الذي يتم فيه تضمين القواعد الفردية مهملة.
في حين يتطرق الجزء الثاني على الأسس المؤسسية للعلاقات الدولية، وعلى الأخص أصول السيادة الحديثة. وهنا يكون المفهوم الافتراضي للثقافة أكثر وضوحًا. يحدد البنائين المعاني الثقافية العميقة على نطاق المنظومة ويستخدمونها لشرح التطورات المؤسسية الرئيسة. كما إنهم يرون أن الأوامر الدولية قائمة، جزئياً، على ما يسمونه العقليات الجماعية -وعندما يحدث هذا التغيير، فإن المؤسسات الأساسية تفعل ذلك.
وبعيدًا عن النظر إلى الثقافة كمعقدة ومتناقضة، يوضح «مارتن وايت» أن أنظمة الدول المكونة للنسق العالمي إذا لم تتوفر فيها وحدة ثقافية بين أعضاءها لن يستقر هذا البنيان. فقد كان المجتمع الدولي «يتفوق على المجتمع الثقافي والأخلاقي». وكانت الفكرة القائلة إن البرجماتية لا يمكنها إلا أن تحافظ على نظام اجتماعي رقيق -وأن الثقافة المشتركة كانت هناك حاجة إلى تعزيز الروابط والمؤسسات والممارسات القوية بعد إنهاء الاستعمار ومدى إمكانية تنوع المجتمع الدولي من الناحية الثقافية.
ختامًا، لذا فإن فشل حقل العلاقات الدولية في دمج المفاهيم المعاصرة للثقافة هو أكثر من مجرد فضول أكاديمي -له آثار بعيدة المدى على كيفية فهمنا لسياسة الثقافة العالمية الحالية. وقد أثار هذا الجدل مع تنامي هيمنة الدول غير الغربية على النظام الدولي عبر تصاعد حدة أزماتها؛ حيث يعتقدون أن النظام الدولي سينهار مع تآكل المؤسسات الثقافية الغربية، والليبراليين، لأن الذين ينكرون أن الاختلافات الثقافية مهمة، معدين أن المؤسسات الليبرالية يمكنها استيعاب الدول والشعوب ذات التعقيدات الثقافية المتنوعة.
المركز العربي للبحوث والدراسات