الأوائل!

لدى الناس ميل غريزي للحصول على أرقام قياسية في مختلف مجالات الحياة، ولهفة شديدة لكسر ما سجله الآخرون فيها، أو ما اشتهر بين الملأ عنها. فالأمر بالنسبة إليهم يرمز إلى معنى واحد هو التفوق.
وأكثر الأمثلة حضوراً في المجتمع هي الرياضة. فالأرقام تتحطم فيها باستمرار، ولا يسلم من ذلك حتى أشدها إبهاراً. ويضع الرياضيون نصب أعينهم أن المجد والمال لن يتحققا دون رقم جديد، وأن أعظم إنجاز رياضي يمكن تجاوزه بالتحلي بالصبر والتسلح بالعزيمة.
ولدى شعوب الأرض هوس أن تكون الأولى في كل شئ، حتى لو لم يثبت ذلك بدليل قاطع. وفي المنطقة العربية ثمة نزاع حول من هم المستوطنون الأقدم، ومن هم أصحاب الحضارة الأولى، ومن هم الذين اخترعوا الأبجدية، ومن هم الذين ابتكروا قوانين الرياضيات. بل إن عناصر ثقافية معاصرة مثل الشعر والرواية والمسرحية ماتزال ريادتها محل أخذ ورد بين هؤلاء أنفسهم، رغم قرب عهدهم بها.
ومن أطرف ما رواه هيرودوت، المؤرخ اليوناني الشهير، أن المصريين القدماء كانوا يعتقدون أنهم أقدم شعوب الأرض، وليس هناك من ينازعهم في هذا الشرف سوى شعب اسمه (الأفريجيون) في آسيا الصغرى. ولما احتدم الجدل حول هذا الموضوع قام الفرعون المصري (بسماتيك) بتجربة غريبة لحسم النزاع. فأرسل طفلين رضيعين إلى البادية، وجعلهما في عهدة أحد الرعاة، وأمره أن يقوم بعزلهما عن المحيط الخارجي ولا يسمح لأحد بالاقتراب منهما. فلما أتما عامين من عمرهما، دخل عليهما الراعي، فاستقبلاه مادين أيديهما وهما يصرخان «بيكوس»! فاستفسر الفرعون عن معنى هذه الكلمة فأخبر أن معناها الخبز في اللغة الأفريجية. فتأكد له بذلك أن الأفريجيين هم أقدم شعوب الأرض قاطبة!
ويفترض هيرودوت أو الفراعنة بهذه (الرواية – الأسطورة) أن الإنسان الأول كان يتكلم لغة خاصة تغلبت عليها اللغات الأخرى فيما بعد. وأن أي طفل في العالم يلم بها على الفطرة، ولا يحتاج إلى من يعلمه إياها. إلا إذا اعتاد لسانه على لغة ثانية جديدة!
وبالطبع فإن هذه الرواية هي من صنع الخيال. فالإنسان المعزول لا يجيد الحديث، وليس بإمكانه أن ينطق بكلمة. ولكنه يتقن لغة الإشارات وحركات الوجه، فيتوصل بها للتعبير عن حاجاته الخاصة. بيد أن هذه الرواية تكشف عن حقيقتين اثنتين، أولاهما سعي الإنسان لمعرفة تأريخه الموغل في القدم. وثانيهما وجود «نظريات» بدائية عن نشوء اللغة وعلاقتها بالمحيط الخارجي. وليس المهم صحة هذه النظريات، فهذه الرواية ثابتة البطلان، إلا أنها تصح أن تكون مقدمة للكثير من الدراسات اللسانية التي ازدهرت في القرن العشرين.
ربما يروق لنا نحن العرب أن يكون لنا تأريخ موغل في القدم، وحضارات ضاربة في عمق الزمن، لكن ما هو أهم من ذلك أن يكون لنا حاضر مجيد. فهو أنفع من الماضي، حتى لو كان حافلاً بالمآثر، وأولى بالعناية حتى لو كان موضع الإعجاب في كل مكان.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة