النزعة الواقعية والرومانسية في (موشور زهايمر)

علوان السلمان

القص القصير (فن لا يبرع فيه سوى الاكفاء من الكتاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في أكثر من اتجاه.) على حد تعبير الدكتور جابر عصفور.كون السرد القصصي أفق تخييلي..ايهامي متجاوز للمألوف..كاشف عن الممكنات الجمالية بابتكار الرؤى والتعابير المكتنزة بالمضامين الانسانية التي تستفز الذاكرة وتحرك خزينها المعرفي لتحقيق المتعة الجمالية والمنفعة الفكرية عبر التساؤلات المنبعثة من الرؤية التصويرية للواقع الاجتماعي والرمز والدلالة النصية والاشارة السيميائية..
وباستحضار المجموعة القصصية(موشور زهايمر)التي نسجت عوالمها ذهنية اختزنت لحظات واقعها واطرتها بوحدة موضوعية وتكامل درامي وسرد فني..انامل القاصة ايناس البدران واسهمت دار البدوي في نشرها وانتشارها /2017..كونها تتناول واقعا مأزوما تشعر فيه الذات الانسانية باغترابها المجتمعي والمكاني..فكانت مغامرة تجريبية رائية..متجاوزة ببنائها السردي المشحون بالايحاءات الخالقة لمشاهدها التخييلية ومواقفها الانسانية..ابتداء من العنوان العلامة السيميائية الدالة والمفتاح الاجرائي الذي يحقق وظيفة الاتساق على مستوى بناء النص واستدعاء المتلقي للغور في اعماقه بغية استنطاق مشاهده كونه دلالة منتزعة من مكنوناته لتحقيق البعد الفكري للنص..
(صوت انفجار يعلو فوق كل الاصوات ليحل بعده سكون مسكون برعـب وترقـب وغبار..كم شــهـدت من حــروب واحــداث جــسام ولحكمة لا يعلمها الا الله بقيت حتى اليوم على قيد شعرة من الموت..دائما هنالك أنملة بينها وبين ذلك الشيء الغامض المهيب تضعها في مواجهة غير متكافئة معه..اربعون عاما من حروب وتيه ورحيل متتابع الى ارض الله التي كانت.. يا للعجب تضيق على اهلها حتى استحقوا اسم شعب الله المحتار..في كل يوم يموت فيها شيء ومع كل انفجار تلملم اشلاءها وتتحامل على يأسها لتقف من جديد..ثم في لحظة بلورية ينشق قلب الارض عن بذرة حياة..من جلد الحرائق ينبت عشب وتنمو طحالب..ومن بين الهياكل النخرة تبرعم اغصان وتجود الايام بنعمة النسيان..تمحى تفاصيل وفصول كيما نظل على قيد تلك التي يدعونها دنيا..ربما لتدنيها ووضاعتها..) ص37 ـ ص38.
فالنص ينصب في خانة الواقعية التي يتلبسها في بعض مفاصلها نوع من الايهام لكسر رتابة التوقع باعتماد مقاربات اجتماعية مع توظيف امكانات التشكل والتنوع التي تمتلكها القاصة من تفاصيل الحياة والمخزونة في ذاكرتها..مستخدمة لها من التقنيات الفنية الاستباقية والاسترجاعية كي تحقق الانتقال من التسجيلية الى الرؤية الفنية بلغة تصنع الغرائبي من المألوف وتضمه في بؤرة عالمها السردي المكتظ بالحركية والحيوية المتدفقة..فضلا عن انه يكرس دلالات انسانية عميقة في حالة صيرورة دائمة ونمو من الداخل يكشف عن حركة زمنية ومتغيرات شيئية من خلال التحكم بجزئيات المحكي ووضعه تحت سلطة المتخيل الذي يبني تصوراته على النسق القيمي..اضافة الى انفتاحه على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان ـ الوعاء الفكري للذاكرة ـ والحاظنة للفعل وانفعال وتفاعل المنتجة (القاصة) للقص بمشاهده المتوالدة من بعضها البعض بمخيلة مكتنزة بالمعطيات الحسية التي تتفاعل معها بوعي كلي ولغة محكية عبر خطاب الذات ومناخاتها بايجاز وتكثيف جملي..
(مازالت تتلمس الطريق الى أناها الجديدة كمن يعبر نفقا سرابيا مزروعا بعظام الموتى وتكابد ولادة اخرى لكنها حقيقية هذه المرة..للذات التي طالما امعنت في طمسها وتجاهلها..ترقبها وهي تشق كفن الحياة الاولى كبذرة عنيدة..وتنأى بكبرياء عن كل ما اشترطته المرحلة السابقة..تتسلل على اطراف اصابعها..تتلصص بخبث طفولي من ثقب الباب على هذه الانسانة الجديدة الغريبة عنها..وان كانت منها..والتي تثير دهشتها وقلقها بجرأتها وتشكلاتها الجديدة المتمردة..وفي خضم هكذا مخاض لابد ان يأتي الحب كطوق نجاة ..جحيم سرمدي.. ليحرق كل تجذرات واحراش الخوف..يقطع بسكينه تمددات شرايين ماض باهت بلا ذكريات.. ليمد جسورا بين الحاضر والحلم الآتي.) ص86 ص87.
فالنص يقيم صراعا عبر حوار داخلي(منولوجي)..تأملي بخطاب تتداخل فيه السردية ببنية درامية متنامية..اضافة الى معالجتها شكلا من اشكال الاسقاط النفسي ..مع محاولة اضفاء مسحة من الترميز وهي تصور هواجس شخوصها الداخلية وتركيزها على الجوانب المعتمة في الانسان الذي يبرز كوحدة اساسية بتكنيك يكشف عن نفسه من خلال رحلتها معه..فضلا عن انه يكشف عن مكنونات الذات تجاه الذات الآخر ببوح وجداني منطلق من مرجعيات فكرية وروحية اسهمت في اتساع عوالمه ومشاهده المنصهرة في بوتقة تراكبية الجملة في السياق والمواجهة الدلالية وفق دوافع نفسية تتفاعل عناصرها الفنية والتجربة الذاتية للتعبير عن الحالة الذهنية..لذا فالقاصة تنتج نصا مبنيا على عالمين متداخلين: الواقع والذاكرة بوحدة سردية موضوعية لا تخلو من غرائبية تتناسب والموقف الفكري الواقعي وانعكاساته الوجدانية..
اما في نصوصها القصيرة(الومضة) والقصيرة جدا(الشذرة) فقد اعتمدت اسلوبا حداثويا معصرن في بنائها الفني يكشف عن تملكها وعيا بقضايا الراهن المجتمعي مع استفادة من التجريب
والمثاقفة والشاعرية بتكثيف واقتصاد لغوي ودلالي مع مقصدية رمزية وجمل قصيرة موسومة بحركيتها وتوترها وانفعالها..اضافة الى اعتماد تقانات الحذف والاختزال والاضمار.. مع ضربة اسلوبية مفاجئة.
(عجوز ضامرة الجسم بفم أدرد يتدلى منه سن يتيم في وجه تهدل تماما حتى ضاعت ملامحه.متكورة على كرسي بعجلات تدفعه امرأة أربعينية بدت مغلوبة على امرها وهي تتنقل بين غرف العيادة الخارجية.سقطت فردة نعلها المطاطي فالتقطتها يد المرأة الاربعينية لتدسه على عجل تحت ابطها..وفيما هما تستجديان أجرة الطبيب يطل رجل بهيئة بودي ـ غارد يحتل بجسده الضخم مدخل العيادة..يحملها بهدوء دون ان ينبس ببنت شفة ككومة عظام ..يدخل بها قصرا منيفا يخاطبها مالكه معاتبا: أمي متى تنسين مهنتك القديمة؟) ص128.
فالنص يمتاز بقدرة التكثيف الدلالي بتوظيف المجاز والاستعارة والرمز والانزياح اللغوي والموضوعي لاثارة التأويلات..فضلا عن اعتماد القاصة الجمل الفعلية القصيرة المتلاحقة التي يحكمها الاتساق والانتظام الداخلي والتي تسهم في تسريع السرد..اضافة الى التكثيف الحدثي والايجاز والاختزال مع اقتصاد في اللغة واعتماد المفارقة الاسلوبية الادهاشية التي تحكم ستراتيجية النص بوعي المنتجة(القاصة) التي تحمله الفكرة والحدث والشخوص والزمكانية والعقدة الدرامية..بلغة متشظية ومتكئة على الابهار الجمالي..
(مسارات كونكريتية تتخللها شجيرات هزيلة..تنزوي هدى فوق مسطبة ذات الواح خشبية لتتخذ مكانها على قائمة انتظار طويلة..الحافلة تنفث ضبابا ابيض..تخور كتنين..تتخاطف أمامها حقائب سفر بصرير عجلاتها..قمصان وفساتين من كل لون..الحزن يطرز حاشية الروح..الغربة استوطنتها..بعدها لملمت أشلاء العمر لتحشرها بحقيبة سفر دفعت بها للموظف الشاب الذي نفحها بدوره وصلا بالاستلام..وخزات في الصدر تعلن عن حضورها الفاجع بين الحين والآخر..هذه المرة انقضت بضراوة مخلب نمر..الجسد المثلوج يلتحم بالمسطبة..تسافر الحقيبة..) ص92.
فالنص تكوين حكائي تتمحور حوله مناطق الاشتغال الجمالي مدغدغة الذاكرة برومانسيته الشفيفة المهندسة جماليا ومعرفيا والذي يفضي بالذات المبدعة الى فضاءات اللامرئي من الموجودات ونسجه في هيكليتها البنائية التي تنتمي الى الغرائبية باعتماد عنصر المفاجأة والاقتضاب السردي المتجاوز للوصفية الاستطرادية.
فالقاصة تقدم نصا ومضيا يحمل استقلاليته ورؤيته البنائية الفنية والتقنية التكوينية التي تكشف عن مدى الاهتمام بالجهد التكثيفي اللغوي واختزال مضموني مع تحليق في العوالم الشعرية لغة ودلالة من خلال التركيز على دال اللغة.فضلا عن الاهتمام بعنصر المفاجأة داخل البناء الحكائي.. من اجل تقديم نص سردي يتسم بالوعي الفكري من خلال موقف واع لمعطيات الزمن السابح داخل أطر دلالية تسير بخطين محققين لنزعتين فنيتين متداخلتين:اولهما النزعة الواقعية التي يظهر فيها عنصر الحكي متأرجحا ما بين السرد الفني وآلية الحوار بابعادها الاجتماعية..وثانيهما النزعة الرومانسية التي خلقت عوالما شعرية متميزة بايقاع وجداني..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة