أشباح مُغتربة

رائد الكور

فوجئت في الأسبوع المنصرم أثناء تجولي في إحدى مكتبات المدينة باعتقالي، حيث تم اقتيادي إلى جهة أمنية مجهولة معصوب العينين، لم يُسمح لي بالحديث أو الاعتراض بكلمات آلية قالوها: «أنت معتقل، أغلق فمك وسر بهدوء».
لم أسمع وأنا قابع داخل هذه المركبة سوى هفيف الريح ورنين اللّاسلكي الخاص بمن اعتقلوني، لم أشعر أبدًا بوقوف المركبة على إشارات المرور، رغم اكتظاظ المدينة بها، كم كانت سريعة ومنسابة وكأنها خُلقت لذاك الشيء.
أبواب تُفتح وتُغلق وأنا أستمع إلى أصوات الحديد واحتكاك الأقفال بأبواب أكلها الصدأ، حُرّرت عيناي من الأسر في غرفةٍ ذات لمبة واحدة متدلية كمشنقة على طاولة بكرسيين، وسيجارة ترسم زخرفتها في فضاء الضوء.
يرمقني مضيفي بعينيه من دون حراك وكأنه يقرأ وجهي بتمعن، وفي زاويةٍ خلفه، وقف أحدهم مائلًا برأسه مكتوف اليدين، لا يبدو عليه التوتر كما الآخر.
مكبل اليدين إلى الخلف في غرفةٍ مضيئةٍ، إحدى جدرانها من الزجاج، ربما شخص ما خلفه يراقبنا ويستمع.
فتح ملفًا من الأوراق كان موضوعًا على طاولتنا وبدأ التقليب بين الأوراق، في تلك اللحظة رأيت صورتي مع والدي عندما كنتُ في الثانية من عمري، كانا ينظران لي وهما مبتسمان، ونظراتهم تقول لا تخشَ شيئًا يا بني نحن هنا، مدت أمي يدها، حاولت الوصول لأصابعها بيدي الصغيرة ذات الثانية من العمر، لكنه أغلق الملف على يد أمي محدقًا بي قائلًا:
– في تاريخ 9-3-2010 اجتزت حدود الدولة بطريقةٍ غير شرعية وغير مسموحة في أعراف دولتنا.
أنظر إلى الرجل في الزاوية وأتساءل في نفسي لما هو واقف لا يجلس؟
– لا يمكنك قطع الحدود! يكرّر كلامه بنظراتٍ أكثر حديّة.
كم جميل أن يشاركنا ذاك الخجول خلف الزجاج. أعتقد أنه رئيسهم.
– أنت متّهم بتدمير السياج الحدودي وكسر قواعد أقرّتها مجموعة كبيرة من الدول ودخول أرض أنت لا تملكها، وليس لديك تصريحٌ بدخولها.
ماذا تقول؟ يسألني.
أنظر بعينيه اللّتين احمرتا وأنظر إلى الرجل الآخر مبتسمًا من دون إظهار أسناني.
– أنت خارج عن القانون ومطلوب للعدالة، وحتى يستتبَّ الأمن يجب أن يُطبَّق القانون.
يشتاط غضبًا، فيقف بعيدًا عن الكرسي وهو يبربر بصوتٍ منخفض.
فيجلس الشخص الآخر وهو متحمس، ينظر إلي ويقول أنت شخص غير متعاون، وعلى ما يبدو أن زميلي قد غضب منك بعض الشيء.
بينما هو يتحدث إلي، زميله خلفه استند إلى الحائط وأشعل سيجارة ونفث الدخان بغضب وهو ينظر إلى الجدار الزجاجي، هنا تأكدّت أن أحدًا ما خلف الزجاج وأن وقتي لم يضِع في مشاهدة الأفلام البوليسية. نظرت إلى جليسي وأنا مبتسم كمُنتش.
– هل أنت لاجئ؟ سألني مضيفي وهو يمشق حاجبيه للأعلى وكأنه يعرف أكثر من زميله.
وهنا أيقنت أن التمرد والهروب هو تعريفٌ بليغٌ للجوء.
– حسنًا هذا ليس مهمًا، فغدًا ستتم إحالتك إلى المحكمة، وسيتم توجيه الاتهامات لك، وسيأخذ القانون مجراه مُدينًا لك بتهمٍ كثيرة كنت قد اقترفتها في حقّ هذا البلد وقانونها.
– الأسبوع المنصرم كنت قد طلبت بالهاتف بيتزا من أحد المطاعم! هل أعجبتك؟
– إذا كنت أنت من أعدّها فبكل تأكيد كانت لذيذة ومشبعة.
– هل هناك شيء تريد أن تضيفه؟
– نعم أنا لم أدفع بقشيش من أجل إيصال البيتزا، هل يمكنني أن أدفع الآن؟
انطفأ الضوء بشكلٍ مفاجئ في الغرفة وسمعت صوتًا يقول:
– أيها السيد لقد انتهى وقت العمل اليوم والساعة الآن الثامنة، يجب أن نغلق المكتبة.
أغلقتُ الكتاب بهدوءٍ شديد حتى لا يلحظ من اعتقلوني فرصة هروبي في الظلام.
– لكن يمكنك القدوم غدًا. قالت صاحبة المكتبة وهي تحمل محفظتها.
من أجل المحاكمة، أم استكمال التحقيق، أجبتُها بصوتٍ خافت اجتمع به كلّ الخوف وأنا أولي الدُّبُر هاربًا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة