التسجيلي الحرفي والوصفي السيمي في (قلعة طاهر)

علوان السلمان

(الطريقة الوحيدة لمواجهة الخيبات المتوالية هي ان يعشق المرء فكرة الخيبة نفسها..) اميل سيوران.
السرد الروائي نسيج لفظي متسام..خالق لبنية مشهدية تتشكل من جزئيات الواقع وكتله البصرية التي تؤثث المكان..المرآة النفسية للشخصية والوعاء الذي تتحرك فيه وتتفاعل معه فتستجيب له وتتأثر وتؤثر فيه..كونها تسقط عليه قيمها الحضارية والابداعية فتسهم في بنائه وتشكيل هيكليته على خارطة الجسد السردي والوجود الانساني.. لذا يعد من العناصر الفاعلة فعلها في بناء الشخصية وتحديد سايكولوجيتها..لانه فضاؤها وحيزها الذي تتحرك فيه وتشغله ككيان اجتماعي يعكس خلاصة التفاعل بينها والمحيط المجتمعي الذي يؤطرها وجودا..ويسهم في خلق تكويناتها المعرفية المنتجة بوعي متجاوز الواقع باتكائه على الاشارة الجمالية المحققة للمتعة النفسية..والايصالية المحققة للمنفعة كاضافة خلاقة يسمو بها الفكر الانساني..بصفته معطى ثقافيا سابحا في بؤر زمكانية متعددة المحاور القابلة للاستنطاق..
وباستدعاء النص السردي (قلعة طاهر) الذي انتجت مشاهده السردية ذهنية مستذكرة..ناثرة لخزينها المعرفي ومنسوجة بانامل منتجها حسن سلمان..واسهمت في نشرها وانتشارها دار نينوى/2017.. كونها ترتبط ارتباطا جدليا بواقعها وتركيزها على الهم الاجتماعي كمحرك فاعل ومؤثر داخل بنية السرد عبر منهج واقعي..اذ استحضار الهم الشعبي واللغة المحكية مع وصف طبيعة العلاقات الاجتماعية والصراع القائم داخل المجتمع بوصفية دقيقة محكمة..فتبحث في مكنون الحياة الانسانية والوجود بكل اشيائه لتحقيق رؤية للوجود الانساني المفعم بالمواقف الميلودرامية القريبة من الفن السيمي.. بتوظيف اسلوب التداعي واستقراء المكبوت النفسي للشخصية من طبيعة تفكيرها وانفعالاتها وتعاملاتها..باعتماد لغة مرسلة..موحية تضفي على السرد حركية دينامية تعكس فضاء الزمان الذي تقترن به الحكاية وهو اما:زمن خارجي(موضوعي)يمثل زمن الحاضر..او زمن داخلي(ذاتي) يمثل الزمن الذي تستحضره الذاكرة المنتجة..
(بعد اسبوع على دخول عبدالمجيد السركال الى المضيف ويده مربوطة الى عنقه بحبل الصوف..وبينما هو يدور حول سور القلعة لاستطلاع المكان لمح (ماهود) شبح امرأة تقفز من طوفة القلعة وتركب خلف خيّال كان ينتظرها..صاح بهما ان يتوقفا لكنهما انطلقا بمحاذاة النهر وابتلعهما الظلام..عاد (ماهود) الى موقعه على الدكة الطينية وهو يفكر من تكون هذه المرأة المتسللة..ومن هو الخيال الذي كان بانتظارها..همّ ان يذهب الى شيخ(طاهر) ويخبره..الا انه رأى ان الوقت متأخر..وعزم على اخبار الشيخ في الصباح..لف لنفسه سيجارة وقرر عدم اخبار الشيخ قائلا لنفسه: (هسه آنه شلي بهاي الدوخة)..بينما تابع الخيّال والمرأة طريقهما باتجاه صريفة بستان الشيخ..) ص42..
فالنص يضيء خبايا الذات باسترسال سردي متعدد الظلال الرؤيوية مع تركيز على جمالية السياق الحدثي وهو يستمد تأثيره من خلجات النفس السابحة في فضاءات المخيلة المزاوجة للواقع من اجل خلق مشاهد بتلقائية تحتكم المنطق القائم على التجربة الحياتية والخزين الفكري المنبثق من لحظة التجلي التي يستشرفها المنتج(الروائي) كتجربة كيانية انتزعها من سياق الوجود ليشكل بنى تأملية دالة اعتمدها بقصدية كـ (بنية الانا وبنية الانا الآخر وبنية الهاجس..) من اجل تفعيل المخيلة التي تنتج مشاهدا تسهم في تحريك ذاكرة المستهلك(المتلقي) للكشف عن خزينه المعرفي وتحقيق اثرها عبر لغة محكية تمازج ما بين الفصحى واللهجة العامية بوعي يفصح عن مستويات متماسكة البناء في سياقاتها التوليفية..الكاشفة عن قدرة رؤيوية للواقع الممزوج بالخيال الذي يولي اهتماما باستعادة التاريخ ومجرياته الحدثية بصفته المكان الذاكراتي مع اشتغال وتيمة الزمن بلغة تخاطب الوجدان بتسجيل اللحظة العيانية الممتدة في الزمن والمتفرعة من جوانح التواريخ وهي تتوزع بمشاهد سردية تميزت بتقنيتها الانتقالية والتذكر والتداعي والحوار بشقيه الذاتي الذي يسعى الى التركيز على العالم الداخلي للشخصية التي تعيش حالة اغتراب وقلق نفسي كما في شخصية(ماهود) الذي (عزم على اخبار الشيخ في الصباح..لف لنفسه سيجارة وقرر عدم اخبار الشيخ قائلا لنفسه: (هسه آنه شلي بهاي الدوخة)..بينما تابع الخيّال والمرأة طريقهما باتجاه صريفة بستان الشيخ..).. والموضوعي الذي هو حوار الشخصيات وانعدام دور السارد..
(ينتصف الليل فيصل شيخ طوفان وراهي الى صريفة (حورية)..يدخل الشيخ الى الصريفة فينسحب زوجها (عطية) مثل كلب مبلل ذيله بين رجليه الى الصريفة الاخرى..مخليا المكان للمحفوظ وهو لا يكف عن الترحيب به..تستقبله حورية بالاحضان..تقبل يديه وجبينه وتشم ثيابه..وهي على اربع وعشرين حباية..عينان مكحلتان بكحل ثقيل..لثة مصبوغة بالديرم..حيث اللون الاحمر القاني يصبغ اسنانها ورائحة المسك والعنبر تضوع من جسدها اللين.. المكتنز..تتناول عباءته وتضعها في ركن الصريفة وتجلسه على دوشك القطن ذي القماش القسطور الاحمر الناعم..(عطية) أو الكلب المبلل الذي ذيله بين رجليه في الصريفة الاخرى ينتف ريش طيور الحذاف التي يصطادها الشيخ بيده ويجلبها معه الى حورية..وراهي يعد منقلة الفحم لزوم الترياق والشاي..حورية تجلس في حضن الشيخ وهي ترتدي دشداشة القطيفة الحمراء..وراهي يناوله بابور الترياق..) ص65..
فالنص يكشف عن قوة التدفق العطفي وتكثيف الرؤيا مع استخدام الالفاظ المجازية المحققة للانزياح باعتماد(الايجاز وتكثيف العبارة..) مع اتكاء على حقول دلالية(زمانية ومكانية وحدثية..) وهو يقترب من الحكائية بتدفق وجداني ينبثق من مركز دائرة الوعي السردي الذي تؤطر عوالمه المشهدية ودلالاته الموحية تقنيات فنية كالاستذكار والتذكر والتكرار(كلب مبلل)و(الترياق*و(اللون الاحمر) دلالة التوكيد الذي يكشف عن مكنونات الذات وانفعالاتها وعمق احاسيسها..فضلا عن اهتمام الروائي بالبنية الدرامية والفكرة وعنصر المفارقة الاسلوبية(صريفة حرية وليست عطية) والمكان (الصريفة)الذاكرة باعتباره منظومة ثقافية..اجتماعية داخل مسارات النص تشكل صورة متوهجة في بناء النص وعمقه مع تعبير عن هلاميتها المتجاوزة للاطر الثابتة..الكاشفة عن قدرة رؤيوية للواقع الممزوج والخيال السردي الخالق لمشاهده الحالمة.. المشحونة بشحنات متناغمة والحس النفسي عبر دلالات هاجسية.. فاعلة بفعلها ومتفاعلة بذاتها والتي(تهبط في الطبقات النفسية العميقة..) على حد تعبير هربرت ريد..عبر بنى استرخائية ولغة تخاطب الوجدان وفق معيار له التزاماته الموضوعية مع تركيز على الحسيات لابراز جماليته المنبثقة من استنطاق كينونة اللفظ الرامز وتفعيل الاثر الذهني بلغة تكثيفية مع ايجاز في العبارة وعمق المعنى وكثافة الايحاء..
وبذلك قدم السلمان حسن نصا بوليفونيميا متعدد الاصوات على مستوى اللغة والاسلوب والمنظور السردي بخط درامي تصاعدي للاحداث يسهم في تشكيل سرديات انثروبولوجية للكشف عن الهوية الثقافية للمجتمع..اما من ناحية المستوى التقني فهو يشتغل على اسلوبية التقطيع المشهدي(السيمي) للحداث التي تتسم بواقعيتها التسجيلية ومشاهدها المحلية الكاشفة عن واقع مستلب يعاني انواع العذابات النفسية والمادية والروحية..لذا فهي مركبة من عدد كبير من اللقطات التي يجمعها خيط رفيع من الواقع بكل مكوناتها وكياناتها باسلوب يتوزع بين التأملي الموحي والتسجيلي الحرفي والوصفي السيمي..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة