ترجمة: أشرف الحساني
تعد المفكرة والسوسيولوجية الفرنسية المعاصرة ناتالي إينيك، أحد أهم وأبرز المنظرين للفن المعاصر في العالم، راكمت في هذا الصدد أكثر من 30 كتاباً. تبوأت عبرها مراتب مرموقة ومتقدمة إلى جانب مفكرين عالميين كبار مثل ريجيس دوبري، جوليا كريستيفا، بيير بورديو، نوربير إلياس، دافيد لوبروتون، ميشيل مافيزولي وغيرهم من المفكرين والباحثين السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين الفطاحل الذين انشغلوا بالدرس الفني والجمالي، الذين قعدوا للفكر الفني المعاصر، محاولين اجتراح مشاريع فكرية وجمالية في هذا الصدد.
وتجدر الإشارة إلى أن ناتالي إينيك، عالمة اجتماع فرنسية ومديرة أبحاث بمركز CNRS ضمن مركز الأبحاث في الفنون واللغات (CRAL) التابع للمدرسة العليا للدراسات في العلوم الاجتماعية (EHESS)، وفي 20 فبراير/ شباط 2014 صدر لنتالي إينيك كتاب ضخم عن منشورات غاليمار «براديغم الفن المعاصر: بنيات الثورة الفنية»، الذي يعد اليوم في طليعة المتون السوسيولوجية المعاصرة المتخصصة في فرع سوسيولوجيا الفن، والتي تناولت من خلاله الفن المعاصر نقداً ومساءلة وتفكيكاً، عبر اجتراحها لمفهوم علمي جديد ظل في حكم الدراسات الابستمولوجية وهو مفهوم البراديغم، الذي استعارته من عالم الابستمولوجيا توماس كوهن من أجل وصف الثورات العلمية لتدمجه كمفهوم منهجي وإجرائي ناظم لمقاربة مفهوم الفن المعاصر عبر ثلاثة مفاهيم أو براديغمات أساسية : الكلاسيكي، الحديث، المعاصر.
*ما موضوع كتابك الجديد «براديغم الفن المعاصر : بنيات الثورة الفنية «؟
موضوع هذا الكتاب يمتد إلى أعمالي الأولى، فقد درست طريقة عمل الفن المعاصر انطلاقاً مما أستبعده، وذلك بغية إبراز كيف تتميز الأعمال الفنية المعاصرة بسمة اختراق حدود، ما يعتبر لدى الحس المشترك، فناً. تفضي هذه الاختراقات دوماً إلى ردود فعل سلبية، في حين أن مقترحات الفنانين تجد نفسها مندمجة ضمن عالم الفن من لدن وسطاء متخصصين في الفن المعاصر. هذه اللعبة الثلاثية للخرق- ردة الفعل- الاندماج هي التي درستها، ومازلت أتعمق فيها إلى حد اليوم.
هكذا استعملت مفهوم « البراديغم « الذي استعمله عالم الابستمولوجيا توماس كوهن من أجل وصف الثورات العلمية، إذ يرى أن التقدم ليس ثمرة تطور خطي، نتيجة اكتشافات تضاف الى بعضها البعض، لكن جراء هزات كبيرة تحدّث المفاهيم العلم نفسها وكذا نوعية الأسئلة التي تستحق منا طرحها للتساؤل وليس فقط الإجابة. فقد عملت على نقل هذه الفكرة إلى عالم الفن داخل العالم الغربي، إذ ثمة ثلاثة براديغمات كبرى نجحت وهي الكلاسيكية والحديثة ثم المعاصرة..
*يعني (قولك) الوحدة في إطار التنوع على مستوى الشكل؟
ليس شكلياً فقط. أنا أشتغل على هذا السؤال ليس من وجهة نظر مؤرخ الفن، ولكن من وجهة نظر سوسيولوجية، بحيث أبرز أن خصوصية الفن المعاصر لا تتبدى فقط في مظهر الأعمال الفنية، وإنما أيضاً في التعريف بها خصوصاً في طرائق عملهم داخل عالم الفن طريقة عرض الأعمال، دور الوسطاء، السوق الفنية، طرائق العرض، المجمعين الفنيين وغيرها من المشاكل والصعوبات التي تعترض المهنيين داخل عالم الفن.
*ما الملامح الرئيسية الكبرى لبراديغم الفن المعاصر؟
إنه يستند على حتمية أو تجربة خرق الحدود، من ثمة نجد الكثير من النتائج، خاصة وأن العمل في الفن المعاصر لم يعد يهدف إلى ما يقترحه الفنان، ولكن من خلال جميع العمليات التي ينتجها هذا الاقتراح : الخطابات، السرديات، المشاكل، الأفعال، التجارب. فالفن المعاصر هو بالأحرى فن خبرة في الموضوع المقترح غير أنه لم يعد فناً حين أصبح العمل فيه يتكون من ذاته. من هنا إذن تكمن الصعوبة التي يواجهها المبتدئون، الذين يشتغلون على البراديغم الكلاسيكي والحديث قصد التحديد بكل بساطة لماهية عمل فني ما معاصر، فلنأخذ على سبيل المثال لا الحصر تركيبة بيرن التي لا يرون أن العمل فيها يتشكل بواسطة الخدوش، ولكن على جميع المساحة المعاد تشكيلها من لدن الخطوط. هذه إذن أولى النتائج: وهي نتيجة حرفية. لخرق الحدود، بحيث أنها نفس حدود العمل التي تم خرقها، آنذاك يتجاوز العمل حدود الهدف الذي رسمه الفنان.
أما النتيجة الثانية فتتمثل في كون أن الخطابات التي ترافق العمل، لا تقل أهمية عن الأمر عينه، ثم أن الفنان يجدر به أن يكون حاضراً، لأن حضوره له قيمة و أهمية كبرى لتقديم العمل حتى ولو تم تفويض هذا الحضور من خلال النصوص.
*ما مكان الواصف في هذا البراديغم الجديد؟ تظهرون أهمية الوسيط، لكن ماذا عن مكانة الناقد؟ آخذين بعين الاعتبار على سبيل المثال مارك شبيجلر الذي ترك مهنته في النقد من أجل أن يصبح مدير Art Basel سنة 2007 بعد كتابة مقاله الجدالي، هل مازال هنالك مطلب النقاد الفنيين؟
هو عنصر غير مؤسس تماماً للفن المعاصر، وهي ظاهرة حاضرة بقوة اليوم، لكنها ظهرت منذ 20 سنة، اقصد تشكل ما أسميه «…فقاعة الفني-المالي…» وأسباب هذه الفقاعة مرتبطة بشكل جزئي فقط بالفن، وخاصة التطور الاقتصادي- المالي للعالم الغربي. وقد أدى ذلك بسرعة إلى ظهور الكثير من التجار والثروات الكبيرة في العديد من البلدان الناشئة وفي اقتصادياتها الجديدة. اذن، توفر كميات مالية ، ينبغي إنفاقها. والحقيقة أنه هنالك اتجاهات معينة في الفن المعاصر، التي لا تتطلب ثقافة كبيرة جدا تتكيف جيدا مع هذه الظاهرة التخمينية، خصوصا مع النوع الذي تطور منذ التسعينيات والذي يمكن أن نسميه بـ «الانطباعي›› وذلك لاستعادة عنوان معرض « انطباعات» المنظم من طرف شارل ساتشي مع مقترحات جاءت في غالب الأحيان صادمة وسهلة الفهم وتراهن غالباً على الفن المتدني والثقافة الشعبية، باختصار هي أعمال فنية لا تتطلب معرفة كبيرة بتاريخ الفن لتكون موضع تقدير، والتي تسمح لمالكي هذه الثروات الجديدة الاستثمار في تلك الأعمال الفنية سواء لأغراض جمالية أو مالية أو هما معاً.
مع هذه الفقاعة الفنية-المالية استعاد القطاع الخاص لقاعات العرض، المعارض، التجار أهميته التي فقدها خلال انتقال الفن الحديث إلى الفن المعاصر. لأنه خلال الازمنة الاولى للفن المعاصر لاحظنا صعودا قويا للقطاع العام، متاحف، وتيارات مفهومية أكثر. مع الجيل الثاني للفن المعاصر، ابتداء من سنوات التسعينات.
*هل تطور دور الفنان كلاعب رئيسي في البراديغم داخل الفن المعاصر؟
ما ظل ثابتاً منذ الفترة الرومانسية هي فكرة هامشية الفنان. إننا ضمن نظام للفرادة، لم تنته صلاحيته بل على العكس احتدم. هناك مغالاة في الفرادة مع الفن المعاصر، والذي هو نتيجة مباشرة لتعريفه للاختراق. لحظتها فكل عمل ينتهك الحدود، فإننا قسراً ضمن فرادة زادت حدتها.
ولكن مع الفن المعاصر، يمكن تحديد هذا التفرد عبر جميع الأوجه، وليس فقط كما كان الأمر في البراديغم الحديث مع أسلوب الفنان البوهيمي الذي يجني القليل، لكنه سيكون بدون أدنى شك صاحب مستقبل كبير، إذ يتم بناء هذا التفرد اليوم ضد اكليشهات الفنان الرومانسي البوهيمي، وقد يتميز الفنان المعاصر من خلال أن يرتدي بالكامل ثلاث قطع ويجني الكثير من المال، لأن هذا يذهب عكس الاكليشيه الرومانسي.
هنالك إذن اليوم جميع أنواع التشكيلات الشخصية للفنان المعاصر.
*ما هي طبيعة فهم الفن المعاصر الذي يقوده علم الاجتماع؟
اعتدت أن أقول دوماً أن الفن المعاصر هو علم الاجتماع، إذ هناك مسارب تفصل بين الاثنين، لأن الفنان المعاصر يعمل كثيراً على السياق المقترح عينه، وهو سياق عالم الفن- والسياق الأكثر عمومية.
ولكن بالعودة إلى علم الاجتماع نجد طريقتين للإجابة على هذا السؤال، وهما مرتبطتان بقيام علم الاجتماع. فالأول إلى حد ما ينتمي إلى الطراز القديم بغية إبراز أن العمل الفني ينبثق من المجتمع، وهي مقاربة تم تجاوزها بعد أن فقدت خصوصياتها الاجتماعية منذ أن استخدمها نقاد الفن في ستينيات القرن المنصرم للحديث عن فن البوب آرت أو الواقعية الجديدة. من ثم تحول هذا الخطاب إلى عالم النقد الفني خصوصاً أنه ليس في حاجة الى التحقيق عن ذلك غير أن سمة علم الاجتماع بالنسبة لي هو الميل إلى الدراسات.
• أجرى هذا الحوار الناقد الفرنسي كليمنت تيبولت، ونشر يوم 13 فبراير 2014 ب Art Media Agency (AMA) فرنسا/ باريس.
*عن موقع الضفة الثالثة