ثقافة الغرف المغلقة

يعتقد البعض أن الثقافة هي بنت الغرف المغلقة، والمكاتب المكيفة، والقاعات جيدة التهوية. لأنها بزعمهم، الأماكن التي تنتج الزاد الفكري لملايين الناس. وبدونه كانت ستنصرف إلى همومها الخاصة، ومشاغلها اليومية، دون أن تعي ما ينبغي عليها عمله في مثل هذه الأحوال.
وبعض هذه الأماكن ليست محايدة تماماً، فهي تتبع جماعات بعينها، وتقوم بضخ ما تشاء من القيم التي ترغب بنشرها بين الناس. ولا تكترث لما يترتب عليها من تبعات.
وسر هذا الاعتقاد هو الإيمان أن الأدب هو الذي ينشر العادات الجميلة، وينتقد الممارسات الفجة، ويلفت الانتباه إلى مكامن الضرر فيها. وأن الفن هو الذي يرقق الذوق، وينثر الجمال، في المجتمع. وليس ثمة أفضل منهما للقيام بهذه المهمة.
ولكن الواقع أن هذه القنوات لا تصنع تقاليد راسخة، مثلما يتوقع الكثيرون. وليس لها دور كبير في إسعاد الناس، ولا تملك القدرة على بناء مستقبل أفضل . فالثقافة ليست مقولات يطلقها أحدهم في لحظة تجل، ليؤمن بها البعض، وينكرها البعض الآخر. بل هي توافقات اجتماعية تحدث بسبب تقنيات جديدة. وهي لسان حال سكان الأحياء والمناطق المكتظة، الذين لا يروق لهم اعتناق الثقافات الكونية الوافدة.
إن الحرفيين الذين يديمون زخم العيش، ويعملون في شتى المهن، ويتوزعون على مختلف القطاعات، هم الذين يصنعون الثقافة الحقيقية، وهم الذين يشيعون المفاهيم الجديدة.لأن بيدهم مفتاح التغيير وهي التقنية.
ولابد أن نعترف أن الكتاب الذي يقرأه الطلبة وأهل العلم لم يكن ليتيسر بهذا الشكل لولا أولئك الذين ابتكروا الطباعة، وأنتجوا الورق، واخترعوا الحبر. ولم نكن لنستمتع بالقنوات التلفزيونية أو ننعم بشبكة العنكبوت، ونبني وجهات نظرنا على ما تضخ من أخبار وتقارير ومعلومات، لولا أولئك الأشخاص الذين جعلوها في متناول الجميع، بعد جهد جهيد، وبحث شاق، وعمل مضن. ونحن ندرك الآن جميعاً كيف أثرت على سلوكنا، ونشاطنا، ونظرتنا للغير. وكيف جعلتنا نتواصل مع الشعوب الأخرى بسرعة فائقة، ووضوح تام.
لكي نحظى بثقافة متجددة لابد لنا أن ننخرط في هذا النشاط، ونهيئ الفرصة لكل النابهين من أبنائنا للخوض فيه. فتلك هي الوسيلة الوحيدة للتقدم. وبخلاف ذلك سنبقى نجتر ثقافتنا القديمة، ونظامنا الحياتي المتهالك، دون أن نتمكن من إضافة أي شئ جديد. فالتغيير لا يأتي دون مقدمات موضوعية.
وسيكون من المثير للإشفاق أن نقحم أشخاصاً يعيشون بهذا الشكل، في أتون حضارة القرن الحادي والعشرين. فلابد أن نتوقع أن يمنى هؤلاء بالإخفاق، وأن يصابوا بالعجز عن الاستمرار، ولا يتمكنوا من إكمال المشوار دون عقبات.
من أجل ثقافة حية ترفع من شأننا، وتعلي من حظوظنا، في هذا العالم، لابد من التقنية. وإلا فإن جميع جهودنا في الحصول على هذه الثقافة ستذهب أدراج الرياح. وسنظل نراوح في مكاننا عقوداً أخرى طويلة.
محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة