الأمن «المُرقّع»: الوجه الجديد للتهجين في اليمن

إليونورا أرديماغني
يُعد التهجين عملية ديناميكية دائمة في قطاع الدفاع اليمني. لكن، ونظراً إلى بروز جهات عسكرية جديدة في المشهد اليمني، شهد تمازج الولاءات السياسية والمحلية والقبلية إلى عملية إعادة صياغة أعمق منذ الانهيار الكامل للعملية الانتقالية في العام 2014، وبدء التدخل العسكري بقيادة السعودية والإمارات في العام 2015. وقد أدّت عملية إعادة تشكيل علاقات القوة في اليمن إلى جيش مهجَّن اتّصف بثلاث سمات ناشئة هي: أولاً، تنامي التهجين على نحو مطّرد بين الجهات العسكرية النظامية وغير النظامية. وثانياً، تحوّل قطاع الدفاع اليمني من نظام وطني يرتكز على جيش زبائني-تقليدي جديد، إلى نمط يتميّز بوجود مجموعات متعدّدة ومتنافسة «تحت مظلّة الدولة»، تكون معها الميليشيات في قلب الهياكل العسكرية الهجينة. وثالثاً، ما يزال التهجين والمحسوبية ديناميكيتين ملحوظتين في قطاع الدفاع اليمني، وإن كانت تعمل على وفق آليات متعددة.

الجهات العسكرية وتبدّل الاصطفافات

هناك راهناً ثمة ثلاث حكومات في اليمن: حكومة تحظى باعتراف دولي بقيادة الرئيس المؤقت عبد ربه منصور هادي، الذي استقرّ في عدن بعد انقلاب الحوثيين في صنعاء في العام 2015، حيث شكّل المتمرّدون الشيعة في الشمال حكومة موازية بفعل تحالفهم التكتيكي مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وبعد مقتل الأخير في كانون الأول/ديسمبر 2017 على أيدي مسلحين حوثيين، قرّر أنصاره إعادة الاصطفاف إلى جانب الحكومة المُعترَف بها دولياً، مع الحفاظ على قدر من الاستقلالية.
وفي العام 2017 أيضاً، أعلن الانفصاليون الجنوبيون تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن. ونظراً إلى تحالف هذا المجلس مع الرئيس هادي ضد الحوثيين (المدعومين من إيران)، بإمكانه الاعتماد على قطاعه الدفاعي الخاص، الذي يتألف بمعظمه من ميليشيات مدعومة من الإمارات العربية المتحدة. وقد عمد هادي إلى مأسسة هذه الميليشيات في العام 2016، فتحوّلت إلى قوى حكومية شرعية.1

التهجين: عندما تصبح الميليشيات ركائز دفاعية

أدّت إعادة صياغة علاقات القوة إلى تنامي عملية التهجين بين الجهات العسكرية الرسمية وغير الرسمية، نتيجة انهيار القوات المسلحة الرسمية في العام 2011 وظهور ثلاث «حكومات» تدّعي الشرعية في اليمن. حين يُنظَر إلى قطاع الدفاع على مستويَي القدرة القتالية للجبهات والحوكمة الأمنية، تبرز للعيان عمليتان متزامنتان: فمن جهة، تُضفي فلول القوات المسلحة النظامية السابقة شرعيةً على الميليشيات غير الجكومية، فتحوّلها إلى جهات أمنية نظامية («عملية إسباغ الحالة النظامية»)، ومن جهة أخرى، تعمل فروع من القوات المسلحة الرسمية السابقة كقوى مساعدة للميليشيات (عملية المساندة).2
كان أنصار الرئيس الراحل صالح يمثّلون قطاع الأمن النظامي في عهد النظام السابق. لكنهم انحازوا بمعظمهم إلى المتمردين الحوثيين في مدة ما بين 2014-2017. والحال أن تحالف المصالح الذي جمع الحوثيين بصالح، أتاح لهم تحسين خبراتهم وقدراتهم، حتى تمكنوا من التسلّل إلى نظام المحسوبية التابع لصالح ضمن القوات المسلحة النظامية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الحركة الحوثية، بجذورها وقيادتها النخبوية (سيّد وسادة)، نجحت في كسب دعم العديد من رجال القبائل في الشمال، مامكّنها بالتالي من تجنيد وتعبئة مقاتلين من الفئة القَبَلية التي كانت تدعم النظام السابق. كذلك، أتاح الدعم الذي تلقّاه الحوثيون تدريجياً من إيران وحزب الله لهم الوصول إلى شبكة منظّمة ومتطورة من المليشيات الشيعية المدعومة من طهران. كما تتبنى المؤسسات الرسمية أيضاً «وجوهاً غير نظامية» في إطار استراتيجيتها للبقاء: فالرئيس هادي في صدد بناء قطاع دفاع جديد يضم جهات غير حكومية، مثل القوات المدعومة من الإمارات العربية المتحدة والتي تحظى بشرعنة الدولة. وفي العام 2012، أصدر هادي قراراً قضى بتشكيل قوات الحماية الرئاسية. وبما أنها لا تملك هيكلية قيادية واضحة تحت سلطة وزير الدفاع، يتولّى نجله ناصر قيادتها بنحو غير رسمي، وهي مُكلّفة حصراً بمهمة حماية الرئيس. وفي مدينة تعز المتنازَع عليها، سمح هادي بإنشاء اللواء الخامس-حماية رئاسية لمحاربة الحوثيين.
اعتمدت الأنظمة اليمنية المتعاقبة عبر التاريخ مراراً وتكراراً استراتيجية وقائية من الانقلابات، استندت إلى تقوية الجهات العسكرية غير الرسمية لتشكّل ثقلاً موازناً للقوات المسلحة النظامية. لكن على خلاف اليوم، كانت الميليشيات مجموعات مساعدة مُلحَقة بالقوات المسلحة الرسمية التي بقيت العمود الفقري للجيش. بين عامَي 1904 و1948، فكّك الإمام يحيى الجيش لمجابهة الجيش الشمالي الذي كان ما يزال مُرتبطاً ومُتأثراً بالإرث العثماني، فأنشأ جيشين موازيين ووحدة حراسة شخصية. وخلال حروب صعدة (بين عامَي 2004-2010)، دعم صالح «الجبهة الشعبية/الجيش الشعبي»، وهي ميليشيا تكوّنت من متطوعين إسلاميين قَبَليين، دعمت الجيش النظامي عبر مواجهة الحوثيين في المناطق الجبلية الشمالية. وفي أيار/مايو 2012، نشر الرئيس المؤقت هادي الجيش إلى جانب اللجان الشعبية المحلية لتفكيك الإمارات الأوليّة التي أنشأها «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في منطقة أبين.

الحوكمة الأمنية: خطة أمنية «مُرقّعة»

باتت الحوكمة الأمنية، بفعل وجود ثلاث «حكومات» في اليمن، تُدار بفضل ترتيبات من القاعدة إلى القمة، حيث تملأ القوات غير الرسمية الفراغ الذي خلّفه الجيش، أو تتقاسم الحكم مع ما تبقى منها. في اليمن اليوم، ما من نظام أمني من القمة إلى القاعدة، بسبب الطابع المحلي الكبير الذي يتّسم به قطاع الأمن، ناهيك عن أن العديد من الأجهزة الأمنية باتت تستند إلى عملية تهجين بين المجموعات العسكرية الرسمية وغير الرسمية، ما أدّى إلى نشوء نوع من «الأمن المُرقّع». ويشير مفهوم «الأمن المُرقّع» إلى أن الدول المُتشرذمة، كاليمن، تؤثِر الاتفاقات الأمنية المحلية على الأطر الوطنية الشاملة، فتكثر الجهات الأمنية المتنافسة، مثل حالات التعايش/التعاون بين الجيوش والجهات المسلحة غير الحكومية، ما يفسح المجال أمام تجارب أمنية هجينة على مستوى المعارك، ولاحقاً على مستوى الحوكمة.3 ويتميّز هذا النوع من الحوكمة الأمنية بعلاقات قوة أفقية لا عمودية، إذ يتم تشكيل التسلسل الهرمي على المستوى المحلي، لأن الدولة المركزية ليست فقط عاجزة عن توفير الأمن في الأراضي كافة، بل متنازَع عليها أيضاً، وتعتمد على «وجوه غير نظامية» للبقاء والاستمرار.
في عدن، تملك كل منطقة أو مديرية جهاتها الأمنية الخاصة، وتخضع أحياناً إلى سيطرة مُختلطة، تتراوح بين كلٍّ من قوات الحزام الأمني، وقوات الحماية الرئاسية، والميليشيات الانفصالية، والفصائل الجهادية. وفي حضرموت، قامت قوات النخبة الحضرمية ووحدات الجيش في المنطقة العسكرية الأولى بإنشاء منطقتَي نفوذ: تقع الأولى في المكلا والساحل، والثانية في شمال وادي حضرموت. وفي صنعاء وضواحيها، يحكم الأنصار السابقون للرئيس صالح مع اللجان الشعبية الحوثية، مايعزّز عملية التمازج بين القوى الأكثر تنظيماً وتدريباً في اليمن، من جهة، وبين أكبر ميليشيا من جهة أخرى. يمكن اقتفاء آثار التهجين أيضاً في الكثير من ساحات القتال: ففي الحديدة، يتولّى طارق صالح، نجل شقيق الرئيس السابق، قيادة قوات الإنقاذ الوطني، وهي عبارة عن تحالف قتالي يضم موالين لقوات الحرس الجمهوري المنحلّة، ومقاتلين محليين تابعين لمقاومة تهامة، وسلفيين جنوبيين من «لواء العمالقة». وفي تعز، يُحارب لواء أبو العباس ضد الحوثيين إلى جانب قوات تحظى بشرعية الدولة (مثل اللواء الخامس-حماية رئاسية)، وهو تعاون مع وحدات طارق صالح لتسهيل الهجوم الذي قادته الإمارات العربية المتحدة على الحديدة، والذي بدأ في حزيران/يونيو 2018.4 وفي محافظة صنعاء، تُواجه فلول الفرقة الأولى-مدرّع في الجيش اليمني، التي يقودها الفريق الركن علي محسن الأحمر (وهو راهناً نائب الرئيس ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة)، الحوثيين إلى جانب الميليشيات القبلية.

المحسوبية في زمن الميليشيات

تحوّلت المحسوبية من نظام سلطة زبائني-تقليدي جديد مرتبط بدولة مركزية متعثّرة إنما موجودة، إلى شبكة من أمراء الحرب، بسبب انهيار الإطار الوطني وصعود قوى إقطاعية مُتنافسة. في هذا السياق، أصبح القادة العسكريون وسطاء محليين بين المجتمعات المحلية من جهة والرعاة والأجانب من جهة أخرى. لاتزال المحسوبية سمة ثابتة في قطاع الدفاع اليمني، بيد أن العلاقات بين الرعاة والعملاء تكيّفت مع السيناريو الجديد الذي تميّز بعملية تهجين متنامية بين الجهات الأمنية الرسمية وغير الرسمية. فالقطاع العسكري اليمني لم يعد «متمحوراً بشأن الجيش»، بل تحوّل إلى مجموعة من «القوى والمجموعات» ذات الهياكل العسكرية الهجينة.
وفي هذا السياق، بدأت فروع من القوات المسلحة النظامية السابقة تُطل برأسها مجدّداً: إذ يشكّل كلٌّ من الموالين لصالح، الذين ينضوون الآن تحت لواء قيادة طارق صالح وعلي محسن، شبكتين من القرابة والمحسوبية ما تزالان تؤثّران في موازين القوى اليمنية. يُشار هنا إلى أن علي محسن يلمّ شمل الجيش اليمني (يقع المركز التنسيقي للجيش الوطني الآن في مأرب) الذي تربطه علاقات قوية مع السعوديين وحزب الإصلاح (الذي يضم الإخوان المسلمين والسلفيين في اليمن).

التغلغل الخارجي أخطر من التهجين

إن تدخّل الفرقاء الخارجيين في الجيش اليمني، هو بالتأكيد أكثر خطورة من تهجين القوات المسلحة، ذلك أن الدول الأجنبية تدخل في لعبة سياسات القوة بهويات سياسية متضاربة وطموحات محلية، فتفاقم شرذمة قطاع الدفاع اليمني. صحيحٌ أنه ليس غريباً أن يشهد اليمن حالات من التعايش، وحتى التهجين، بين الجيش وبين الميليشيات، إضافةً إلى وجود قادة قبليين-عسكريين-تجّار يطمحون إلى الاستقلالية.
لكن الجديد هو الضعف الشديد والاستقطاب الداخلي في قطاع الدفاع، ناهيك عن تدخّل الفرقاء الخارجيين (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران) في المشهد الأمني اليمني. علاوةً على ذلك، تعكس فروع من قطاع الدفاع النظامي والقوات الحكومية الرسمية سمات متضاربة، بوصفها منقسمة من حيث الجغرافيا والإيديولوجيا والولاءات والدعم الخارجي، وتُجسّد فعلياً فكرة الجيشين «الشمالي» و»الجنوبي». فواقع الحال أن المجموعات التابعة لعلي محسن وصالح تدافع عن المصالح الشمالية، وهي مكروهة بنحو كبير من الجنوبيين الذين يؤيدون أساساً القوى المدعومة من الإمارات العربية المتحدة. كما أن شبكات المحسوبية التابعة لهم تدعو إلى قيام دولة يمنية فدرالية إنما موحّدة، أي عكس طموحات الميليشيات التي تريد تحقيق استقلال جنوب البلاد.
إذن، لايعكس «الأمن المُرقّع» الإبهام والتقلّب الكامنين في الأنظمة الأمنية الصغيرة في اليمن وحسب، بل يعبّر أيضاً عن تعايشها الذي لايمكن التحكّم به داخل دولة موحّدة.

تم نشر هذا المقال على موقع المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية(ISPI)
هوامش
1 تولّت الإمارات العربية المتحدة تنظيم وتمويل وتسليح وتدريب قوات الحزام الأمني (المنتشرة في عدن وأبين ولحج) وقوات النخبة الحضرمية وقوات النخبة الشبوانية، لوقف اندفاعة المتمرُدين ومحاربة الفصائل الجهادية.
تم تشكيل هذه الميليشيات في أوائل العام 2016، وهي تضطلع بمهام عسكرية وشُرطية وقضائية، وتقع تحت إشراف وزارة الداخلية أو الجيش، مع أنها تنصاع لأوامر الإماراتيين وليس لأوامر الرئيس هادي.
2 أُعرب عن امتناني ليزيد صايغ على هذه النقطة خصوصاً.
3 Eleonora Ardemagni and Umberto Profazio, New Armies for a New Era. Decrypting Post-2011 Arab Military Reform Trends, Nato Defense College, Research Paper no.145, March 2018.
4 وفقاً للأمم المتحدة، «يسيطر لواء أبو العباس على مناطق داخل المدينة، ويمارس الحقوق والمسؤوليات الخاصة بالحكومة الشرعية على نحو حصري»، مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فريق الخبراء المعني باليمن، 26 كانون الثاني/يناير 2 مستند رقم S/2018/68، 018، ص. 100.
إليونورا أرديماغني باحثة مساعدة في المعهد الإيطالي للـدراسات السياسية الـدولـية (ISPI) وأستاذة مساعـدة فـي الجـامعة الكاثوليكيـة في مـيلانو.
مركز كارنيغي للشرق الاوسط

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة