الأقبية السرية.. لـ “دستويفسكي”

أوس حسن

لعل القارئ يتساءل من عنوان المقال، هل هناك رواية  لدوستويفسكي بهذا العنوان؟

أم أن الكاتب أخطأ في عنوان أحد روايات دوستويفسكي؟

إن القبو السري لدى دوستويفسكي، هو عالم النفس البشرية المحير، والمبعثر في ظلمة  الأعماق. هذا القبو السري هو عالم البواطن الذي تتصارع فيه التخيلات، والأحلام، والرغبات، وكل المشاعر المكبوتة لدى الإنسان. إنه العالم الذي حير معظم الفلاسفة وعلماء النفس وهم  يدرسون الدوافع الأساسية للسلوك البشري الذي تتسيده الرغبة في القوة، والنزعة الدائمة للتملك، وفي غمرة البحث عن معنى أصيل وجوهري  لوجود الإنسان. جاء دوستويفسكي ليضيء لنا تلك الأقبية، ويكشف الستار عن أبطالها الغامضين والمجهولين.

                                                                                               فمن منّا لم تسكنه روح دستويفسكي المتمردة والضاجة بالشكوك، أو المرهقة في أسئلتها الوجودية الكبرى. من منّا لم يتوقف أثناء قراءته لروايات دستويفسكي ليغوص في أعماق نفسه وذاكرته، وكأنه عاش تلك الأحداث والشخصيات في زمن مضى، أو شعر أن دستويفسكي يقدم تحليلا باطنيا لهواجسه، ومخاوفه المتصارعة.
كانت ذاكرة دستويفسكي مليئة بالحكايا والأحداث التي عاشها في طفولته وشبابه. الذاكرة وما تحويه من خزين هائل من الألم والمعاناة، كفيلة بأن تخرج لنا هذا الألم على هيئة رموز وصور وشخصيات متحركة في دائرة الزمن البشري، وكيف ترى العالم من منظورها الداخلي ورؤيتها الخاصة.

ظهرت أولى علامات الصرع على دستويفسكي أول مرة وهو في الثامنة عشرة من عمره، عندما علم بوفاة والده عام 1839 ورافقه هذا المرض في سجنه وفي مراحل حياته المختلفة. عرف دستويفسكي المرض والفقر والمنفى والسجن، وواجه لحظة الإعدام المرعبة في سيبيريا عندما كان منتميا إلى رابطة «بيتراشيفيسكي» المعارضة للاستبداد القيصري في روسيا، وكان يصف اللحظات المصيرية في حياة البشر، ويرصد التحولات في عمر الإنسان والوجود بكل ما أوتي من معاناة ومن صدق إنساني. وبخبرة المتأمل العميق الذي شهد مصائر الحياة وأقدارها المتقلبة، فكان بحق مؤرشفا للذاكرة الإنسانية في عالم مجنون يطفو على سطح من الغرائب والتناقضات.

العودة لقراءة مؤلفات دستويفسكي في فترات متباعدة من عمرنا، هي استعادة لجزء كبير من براءتنا المفقودة ولزمن لم يعد ملكنا. عالم دستويفسكي رحلة طويلة وشاقة إلى البواطن المجهولة والخفية، وانعتاق ساحر للذاكرة من كوابيسها وأوجاعها المضنية.
تتميز روايات دستويفسكي بالحضور والتجدد في كل زمان ومكان، فهي بالإضافة لطابعها الفلسفي والتأملي، تقدم للإنسان معرفة مقرونة بالعمل والتطبيق، وعلاجا روحيا يساعد على تطهير النفس مما علق بها من شوائب وأمراض اجتماعية ونفسية، وتساعد على هدم الذات القديمة وبناء ذات جديدة متحررة من الأنا.  
إن النفس البشرية بكامل تقلباتها وصراعاتها وتناقضاتها، تجدها حاضرة في روايات دستويفسكي، فهو مشرّح عميق للنفس الإنسانية ومصيرها في عالم متناقض ومرعب.
كما أنه يقدم لنا تحليلا ثاقبا للحالة السياسية والاقتصادية والدينية لروسيا في القرن التاسع عشر، من خلال تفكيكه لبنية المجتمع الروسي وتسليط الضوء على نماذج مهمشة ومسحوقة داخل هذا المجتمع، فكان أغلب أبطال رواياته من المجرمين والفقراء والمنبوذين. فهؤلاء على الرغم من شرورهم وعتمات نفوسهم إلا أننا نستطيع أن نرى وهجا يضيء هذه العتمة، وخيرا دفينا في الأعماق، غيبته الأعراف والتقاليد والكبت اليومي الذي يمارسه المجتمع على رغبات الإنسان.

يقول الناقد والأديب الروسي فلاديمير دنبيروف: “إن قراءة روايات دستويفسكي تعتبر حدثا في حياة الإنسان. فعندما نقرأ كتبه نلج عالما شعريا على درجة عالية من التكثيف والتركيز، بحيث يضيء أفق الحياة الفعلية بوهج المعاناة الفنية الهائلة، ولا نعود نرى العالم كما كنا نراه سابقا”.
أما الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث فيقول: «حتى بعد وفاته بمئة عام يظل تأثير دستويفسكي ينمو ويتسع، بدءا بأرض وطنه، حيث حظي بالاعتراف به وهو على قيد الحياة، وامتدادا إلى بلدان أوروبا وأميركا وآسيا. وهذا التأثير لا يقتصر على الأدب وحده بل يمس نمط الحياة فكرا ويتصور مئات آلاف القراء في شتى أنحاء العالم أبطاله وكأنهم معارف قدامى

تكمن عبقرية دستويفسكي وهو يسبر أغوار النفس البشرية، في أنه يحاول الإجابة عن الأسئلة الفلسفية الأزلية التي أرقت الإنسان وأزّمة وجوده على هذه الأرض، فمن خلال معاناته مع مرض الصرع كانت تزداد رهافة دستويفسكي وإحساسه بآلام الناس وعذاباتهم، فعدم كمال هذا العالم دفع به للولوج إلى جوهر الشر والخير عند الإنسان، من خلال رسم شخصيات مشحونة بجو من صراع التناقضات والثنائيات: كالمثالية والمادية، الأخلاق الثورية والمسيحية، الإيمان والإلحاد، العقل والعاطفة، وما يرافق هذا الصراع من أقدار ومصائر.

دستويفسكي الذي فاق سيغموند فرويد عمقا وتحليلا في نظرياته النفسية، والذي علم نيتشه أن يكون سايكولوجيا، يعلمنا أن المحبة في كل ذرة من ذرات الكون وفي كل حركة دؤوب في هذا العالم. المحبة عنده هي أن تنتقم بقوة التسامح، أن يكون قلبك ينبوعا طاهرا يغسل صليب الخطايا التي تناسلت في أوهام عدوك، أن تبلغ روحك ذروة الكمال والخلود، لكي تتحرر من وطأة الزمن ويتمثل فيك الإله على هذه الأرض.
في 26 يناير/كانون الثاني 1881 عانى فيدور من تمزق رئوي حاد ولم يستطع الأطباء علاجه. فارق فيدور دستويفسكي الحياة في 9 فبراير/شباط1881 بعد صراعه مع المرض، وقد نقشت على شاهدة قبره عبارة من إنجيل يوحنا: “الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت.. فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير”..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة