تحديد النسل ..!!

كثير من المهتمين بالشؤون الديموغرافية ، لا يترددون في اظهار قلقهم من حجم الزيادات السكانية في العراق التي مازالت مرتفعة بالمقارنة مع دول المنطقة والعالم ، ولا يجارينا فيها سوى الشقيقة مصر ، اذ يحتل البلدان اعلى نسبة نمو سكانية بين البلدان العربية ، تصل إلى (2.5%) سنويا .. ومبعث القلق هذا يعود إلى الخشية من حدوث تضخم سكاني مقابل محدودية الموارد الاقتصادية ، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر وحرمان الاجيال المقبلة من الظفر بحياة كريمة بعيدا عن الجوع ..
ومثل هذا القلق قد يكون مشروعا ، فيما لو كانت مثل هذه الهواجس غائبة عن طاولة المخططين ، او انها لم تلفت نظر المعنيين، وبالتالي قد يحدث مثل هذا المحذور ، لاسيما ان العراق لم تعد تفصله عن ولوج النافذة الديموغرافية ، سوى سنوات قلائل ، وذلك عندما يصبح سكانه من الشباب يشكلون اكثر من 60% من مجموع السكان ، وهؤلاء هم النشطون اقتصاديا ، ومن هنا ينبغي ان تكون الرؤية واضحة تماما من اجل تحويل الزيادات السكانية التي تقترب من مليون انسان سنويا ، من عبء على التنمية ، مع احتمالية حدوث مشكلات كبيرة ، إلى قوة انتاجية تمثل محركا ايجابيا وفاعلا اساسيا في عملية التنمية ، وصولا لتحقيق معدلات نمو اقتصادي تساعد السكان على العيش بكرامة ..
ولكن ، هنا ربما تثار مجموعة من التساؤلات المرتبطة بذلك القلق المشروع من الزيادات السكانية ، فيما لو تركت الامور من دون معالجة ، ومن هذه التساؤلات : هل ان مثل هذه الرؤية موجودة فعلا على طاولة المخططين ؟؟ .. وهل بالإمكان الذهاب باتجاه اصدار تشريعات وقوانين لتحديد النسل في العراق ، .. لأننا وإزاء المليون السنوي نتوقع ان يتضاعف سكان العراق مرة واحدة كل 25 سنة ، فإذا كان عددهم الان 38 مليونا ، فانههم سيصبحون 76 مليونا نسمة عند العام 2043 .. وعند الاجابة على تساؤلات مقلقة كهذه، يمكن العودة إلى التوجهات التي تبنتها الحكومة في هذا المجال ، وفيما اذا كانت هذه التوجهات مستجيبة فعلا لقضية البعد السكاني وإدماجه في الخطط التنموية بعيدة المدى ، فضلا عن ضرورة التماهي مع اهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي تبناها المجتمع الدولي ، ويأتي في مقدمة تلك الاهداف ، العمل على انهاء الفقر بجميع اشكاله في كل مكان ، بوصفه الهدف الاول للتوجهات العالمية ، ثم يأتي بعده ومكملا له الهدف الثاني الداعي إلى القضاء على الجوع وتحقيق الامن الغذائي .. ويبدو ان الحكومة ، انتبهت فعلا لمثل هذه الابعاد المهمة ، اذ عملت على ادخال البعد السكاني ضمن خطة التنمية الخمسية 2018-2022 ، كما ان وزارة التخطيط اطلقت الوثيقة الوطنية للسياسات السكانية على وفق اطار مؤسسي ومبادئ اساسية تقوم على اساس احترام حقوق الانسان والتأكيد ، ان الاسرة هي الوحدة الاساسية للمجتمع ، ومنح الزوجين حرية تحديد عدد الاطفال ، ثم اعتبار الشباب هدفا وشريكا في التنمية .. ومثل هذه المبادئ التي يبدو واضحا انها تمثل معايير حقيقية لتحقيق التوازن المطلوب بين البعد السكاني والنمو الاقتصادي ، على اعتبار ان الانسان هو اساس ومحرك ومحور وهدف التنمية بجميع ابعادها .. وفي ضوء المبادئ ذاتها ، نعود للتساؤل الثاني ، هل بالإمكان تحديد النسل على وفق قوانين وتشريعات نافذة ؟ .. من المؤكد ان عملية اصدار وتبني مثل هذه التشريعات ليس سهلا ونحن نتحدث عن مجتمع مثل المجتمع العراقي تحكمه الكثير من المواريث والقيم الاجتماعية التي ربما تتعارض مع هكذا توجهات ، ولكن بالمقابل ، فان ثمة انخفاضا في معدلات النمو السنوي للسكان ، اذ كان الحديث يجري قبل سنوات عن 4% هي نسبة الزيادة السنوية ، فيما نجدها الان انخفضت إلى اقل من 3% ، وهذا يعطينا مؤشرا ان الاسرة العراقية لاسيما الاسر حديثة التكوين بدأت تدرك صعوبة توفير متطلبات العيش الكريم بعدد كبير من افراد الاسرة ، فباتت تكتفي بطفلين او ثلاثة في اعلى تقدير ، مع المباعدة بين الولادة ، كما يؤشر ذلك ايضا إلى وجود تطور نوعي في مستوى الوعي الاسري في هذا المجال ، ومن هنا يمكن الحديث عن امكانية القيام بالمزيد من حملات التوعية والتثقيف من اجل تطبيق المعايير السليمة في بناء الاسرة ، وفقا للتوجهات العامة للسياسات السكانية في العراق التي وضعت لها عشرة محاور رئيسة ، تبدأ بتحسين الصحة الإنجابية وتمر بالتعليم لتنطلق إلى تمكين المرأة ، وتتناول الشباب ، وتهتم بالسكن ، وتسعى لوضع حلول ومعالجات للهجرتين الداخلية والخارجية ، ولم تنس تلك التوجهات ، الاهتمام بالبيئة بهدف تحقيق تنمية مستدامة تحقق التفاعل بين السكان والبيئة وتغيير المناخ والتنمية الاقتصادية ، كما انها تمنح الفئات الهشة في المجتمع مساحة تتناسب والاهتمام بهذه الشريحة ، وتدعو تلك المحاور ايضا إلى ضرورة الاهتمام بالبحوث والدراسات وبناء قاعدة البيانات السكانية ، فضلا عن تعزيز الشراكات الواسعة والفاعلة بين المؤسسات الحكومية والمنظمات المحلية والدولية .
عبدالزهرة محمد الهنداوي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة