زهير الجبوري
تبدو للوهلة الاولى مسألة الأخذ بالشعرية العراقية في ظل التحولات الجوهرية التي يعيشها العالم في رصد الظواهر العولمية ، وهيمنة خطاب الميديا بوصفه سلعة اقتصادية ، واحدة من أهم الاشكالات العالقة في ذهنية الآخر/ المتلقي ، وحين تتضح الملامح المتشكلة في تجربة الشاعر المعاصر ، فإن العامل الاساس في التقاط ذلك يكمن في اعادة النظر بكل ما جاء به الشاعر من تجربة ولاّدة ومبتكرة ،وحين تكون القصيدة مشروع اسقاطي او تطبيقي للجانب العقلي والاحتكام الى نقد الظاهرة او وصفها ، فان ذلك يكون بديلا عن تهويمات اللّغة وبناءاتها البلاغية واحساسها الغنائي ، حتى في حالة استعادة الخيوط والملامح والموروثات وما جاءت به المثيولوجيا ، يكون باشتراطات فنية معاصرة ، ولعل الشاعر العراقي امسك بهذه المسألة من جذورها ليعكس قراءته للواقع قراءة وافية لما تفرضه هذه العوامل ، فملاحقة الظاهرة ، هي ذاتها التي عكست قدرة الشاعر في كتابة قصيدة متماهية مع الواقع بكافة جوانبه في (العمران البنائي .. والخطابات المتضاربة .. والحماسات الدينية .. وكسر الذائقة المكانية .. والتعالقات المتناقضة بين سلطة المرئي والرجوع الى السلفية ) ، كلّها عوامل ساعدت الشاعر على تقديم مشروعه الشعري في صياغات مغايرة ، فلم تكن لعبة الاشكال التي اشتغلها أكثر من جيل شعري هي البديل المعبر عن كسر الثابت في القصيدة العراقية ، ولم يكن الخطاب الآيديولوجي هو العامل الاساسي في كسر هذا الثابت ، ففي ظرفنا الراهن تقف القصيدة في اطار التحقق الشعري ، لأنها تثير مبدأ إثارة السؤال الوجودي ، قصيدة لا تخضع لضوابطها اللّغوية فحسب ، انما تعبر عن موقف مصيري تجاه الواقع الشائك والاشكالي ، فقد آن الأوان لأن يقدم الشاعر العراقي قصيدته بعيداً عن المغامرة وقلق التأسيس ، وقد آن الأوان لأن يعلن عن حضور نصه الشعري بوصفه وحدة متكاملة مع ما يعيشه داخل فضاءات زمن العولمة ، والشاعر كاظم الحجاج واحد من أهم شعراء المرحلة الراهنة التي تمسك بهذه الظاهرة ، نقرأ في قصيدته (هنا في ظلام النهار):
هنا في ظلام النهار
يا زها حديد قبل ان ترحلي
لماذا لم تصممي لنا وطناً
سياجه يعلو النخيل ..
ان سمة التوصيف هنا ، اعطى بعداً (استفهامياً) / شعرياً يغور في فضاء السؤال الناقد ، بمعنى ان الشعر ليس وظيفة جمالية / بلاغية / بنائية ، فحسب ، انما وظيفة لكشف الأزمات والحالات والظاهرات الاجتماعية والسياسية والفكرية والدينية ، وكل شيء يرتبط بوجودنا ، والحجاج في قصيدته هذه التي قرأها في افتتاح المربد السابق /20017 ، يستعيد عبر (يا النداء) اسم المنادى (الراحل في الواقع) ، ويستفيض من الجانب الفني (التصميم للراحلة) في رسم الوطن العالي بعلو النخيل ، وهي قراءة لها محمولات سياسية ، حتى في نقد العقل الباطن ، يفصح الحجاج بطريقة ساخرة في الكشف عن (التابو) ومحاولة كسر ثابت النص عبر تبطينية شعرية ، يقول :
يا سيدٌ .. ياشيخٌ
أنا ما خنت إمرأتي السمراء فوق الأرض
أخون هناك.
التداعيات واضحة هنا ، وما مسكوت عنه أعلنه الشاعر ، وهذه وظيفة القصيدة حين تتمظهر بقصديتها وبمضمونها وبطرحها الموضوعي الناقد ، والشاعر كاظم الحجاج يرصد هذه الحالات ويكرسها ويعلن موقفه الصريح عبر سلطة القصيدة، على الرغم من بروز البناء الشعري بفنية عالية وبمفارقة ملموسة ، ومع رصد الظاهرة التي نعيش تفاصيلها في راهننا الآن ، يعود الشاعر في ختام قصيدته ليكشف النقاب قائلا :
لماذا لم تصممي لنا وطنا
سياجه بعلو النخيل
عسى ان ينام اطفالنا آمنين
من تجار قريش
كما تنامين الآن آمنة هناك
في مقبرة .. أجمل من بغداد .
ان المصير الشعري الذي يكشف عن قراءة الازمة ، هو الباقي في ذهنية الآخر ، لأنه يثير جدل السؤال من خلال انزياحات فنية وموضوعية معاً (فرضتها التحولات السياسية السريعة والعنيفة) كما يقول (علي الفواز)، وهذا ما يجعل الشاعر قريب الامساك بمضمونه ، فـ(الاطفال الذين وقعوا ضحية تجار قريش ، وغربة ـ زها حديد ـ ومقبرتها الأجمل من بغداد)، يكشف عن تغريب النص عبر اداء شعري ناقد ، وهذه ميزة تمتع بها الشاعر الحجاج بغية كتابة نص بعيد عن المنمقات اللغوية والبلاغية ..