عدنان الصالحي*
برغم ما مر بالعراق من هزات عنيفة منذ التغيير السياسي عام 2003 مرورا بإجتياح تنظيم داعش الإرهابي للمناطق الغربية من العراق عام 2014، إلا أن نهاية هذه البداية غير المتزنة بدأت تلوح بالأفق كما يبدو، فالمعطيات الأخيرة تشير وبقوة إلى أن العراق سيدخل مرحلة الأستقرار السياسي ولو بخطوات بطيئة ولكنها ستسير بنسق متصاعد، فالمؤتمرات الأخيرة للدول الإقليمية والعالمية، والزيارات المكوكية للشخصيات العالمية التي تتحرك بوصلتها نحو العراق؛ تشير وتؤكد على ذلك.
إذن، نحن أمام مرحلة جديدة تبدو فيها عواصف الأزمات مستبعدة إلى حد كبير، ولكن السؤال هنا: كيف يمكن للقيادات العراقية بشتى مشاربها أن تستغل الفرصة لتضع البلد على طريق النهوض العالمي والإستقرار وجعله رقما دوليا أو إقليميا في أقل تقدير؟.
أغلب التقارير التي أوردها الباحثون المختصون تشير إلى أن عملية الأهتزاز الأمني أصبحت مستبعدة رغم وجود التهديدات المحدودة ضمن مناطق معينة، كما أن أزمة الإستفتاء بدأت تغرب شمسها بعد أن وصلت إلى قمة التعامد على الرؤوس وأنتجت وضعا جديدا يكرس مرحلة جديدة، كما ذكرناها في مطلع المقال.
أضف إلى أن أسعار النفط الحالية تشير إلى إستقرار نسبي للإقتصاد والوضع المالي العراقي وعبوره مرحلة الخطر إذا ما أستقرت إلى أشهر مستقبلية. وبهذا لم يبق للبلد سوى مخاطر داخلية محددة من السهل إيجاد حلولها الفعلية لا الشكلية والإستغراق في إنهاء ملفاتها وغلقها نهائيا.
لعل أبرز تهديدات المرحلة الحالية تتمثل في:
أولا: الفساد المالي والإداري
حيث يعد من أخطر ما يهدد البلاد للمرحلة المقبلة، وهو ما ينبأ بعودة الأمور لمربعها الأول؛ إذا ما أستمر مسلسل تواجده ودوران هيئات المحاسبة حول صغار الفاسدين وترك بؤر الثقوب السود تبتلع ما يدر على البلد من مصادر مالية، الأمر الذي يشير إليه بعض الخبراء بأن ما قيمته 850 مليار دولار صرفت منذ عام 2003 ولحد 2016 لكنها لم تبرز شيئا واضحا على الأرض من تطور أو إعمار فضلا عن رفع معاناة السكن والبنى التحتية للبلد.
الخطابات الدينية والسياسية والشعبية، تكاد تتمحور حول هذا الأمر وتتفق على أن ما بقي من مخاطر مرحلة البداية هو أخطبوط الفساد، غير أن الجميع مازال يتكلم بعناوين عريضة ولا تحدد فيها الجهات ولا الأسماء. نعم، قد يكون ذلك من إختصاص الجهات الرقابية والقضائية حصرا، ولكنها هي ايضا تتعرض للتضييق والتدخل بين الفينة والفينة الأخرى لعملها برغم الممانعة التي تبديها الملحوظة في الآونة الأخيرة.
ولعل هذا الملف يعتبر الملف الأول الذي سيواجه رئيس الحكومة القادمة، فلا إعمار للمناطق المتضررة من تنظيم داعش، ولا مساعدات الدول المانحة للعراق ستكون في متناول اليد اذا ما بقي الوضع على ما هو عليه من غياب الشفافية وضعف المراقبة والمحاسبة الفعلية.
وهنا يبدو أن الأمر لا يحتاج إلى جهود خارقة للعادة بقدر ما يحتاج إلى قرار سياسي فعلي وحقيقي تشترك فيه أغلب الكتل السياسية، يكون لرئيس الحكومة الجهد الأكبر في وضعها على الطريق الصحيح، فأغلب الملفات التي تدين كبار الفاسدين ليست ممنوعة التناول بقدر ماهي معلومة للقرار السياسي، فأغلب القوى المدنية والسياسية تتفق على ضرورة إجراء إصلاحات في البنية السياسية العراقية ومراجعة شاملة لها، إلا أن الأغلب يقف حائلا دون إجراء إصلاحات فعلية تجاه ذلك، ومن هنا فأننا نرى بأن أولى خطوات محاربة الفساد وإجراء الإصلاحات تبدأ بـ:
1- إتخاذ الأحزاب والكتل السياسية العراقية قرارا فعليا وواقعيا بإبعاد الفاسدين عن هيكليتها وصفوفها وعدم حمايتهم؛ لأنهم سيسببون عاجلا أم آجلا بمشكلة لتلك الأحزاب أو الكتل مما سيفقدونهم المصداقية تجاه قاعدتهم الجماهيرية.
2- تفعيل الديمقراطية في داخل تلك الأحزاب وتداول الرئاسة أو القيادة فيه بشكل دوري وضمن أطر الكفاءة والنزاهة بعيدا عن المسميات وجعلها مفتوحة الأبواب للجميع فعلا وإنتماءا وتفاعلا، مما سيكسبها ذوبانا حقيقا في المجتمع ويجعل التفاعل المجتمعي معها ممكنا.
3- وضع برنامج سياسي ناجح، فيه حلول واقعية لمشكلات البلد والعمل على حلها بالتعاون مع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بعيدا عن الدعاية الإنتخابية.
4- عدم استعمال الأدوات القانونية لإعاقة العمل التنفيذي الحكومي أو التشريعي، كتسيس الإستجوابات منعا أو تفعيلا وممارسة سياسة (العراق أولا وقبل كل شيء).
5- إطلاق يد رئيس الوزراء في تسمية تشكيلته وتحميله المسؤولية في إختيارهم، مع متابعة ومراقبة الأداء بشكل دقيق بعيدا عن التجاذبات الإعلامية.
6- إعادة النظر في برامج مكافحة الفساد على وفق رؤى الدول الناجحة في هذه التجربة، مع توفير حصانة للأجهزة الرقابية والقضائية والتنفيذية من أي شكل من الضغوطات والتجاوزات لتمكينها من فرض القانون على الجميع.
7- فسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني والنشطاء المدنيين؛ لأخذ دورهم في إسناد أجهزة الدولة وحمايتهم من الإستهداف الجسدي والشخصي.
8- تمكين الإعلام الإستقصائي من ممارسة دوره في كشف القضايا ومتابعتها وتوجيه الرأي العام لها مع ملاحظة عدم تزييف الحقائق أو الإستهداف السياسي للبعض.
ثانيا: الإنضباط السياسي
يمكن القول بأن أكبر مشكلة واجهها العراق لما بعد التغيير تفرعت منها المشكلات الأخرى، هي مشكلة عدم الإنضباط السياسي، والتي تمثلت في خرق الكتل والسياسيين لأبسط قواعد العمل السياسي، فكل شيء في ضرب خصومهم مباح لديهم حتى وأن كانت تلك الأدوات تدمر نصف البلد أو تذهب بدماء أبناءئه من أجل خلاف بين جهتين أو شخصين، مما جعل التوتر سمة بارزة لمرحلة ما بعد التغيير السياسي عام 2003، فأغلب الكتل أخرت إقرار مشاريع مهمة لصالح بناء دولة المؤسسات ليس لسبب وجيه إلا لرغبات قيادات تلك الكتل أو مساومات على قرارات أخرى، هذه الظاهرة لابد أن توضع حدود لها وأن لا تستمر لتصبح ظاهرة سياسية عراقية بامتياز، فالتسابق على العمل السياسي أمر مشروع ومن أبجديات السياسة، لكن يجب أن يكون ضمن سقف الدستور ومصلحة البلد العليا وحماية العباد والبلاد.
ثالثا: ضعف الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم
من أهم أسباب فشل الحكومات وإنهيارها هو إتساع الهوة بينها وبين شعوبها، وبرغم أن الأميركان وقدرتهم العسكرية هي من أسقطت نظام صدام ظاهرا، إلا أن حقيقة المرء تكمن في القطيعة التي نشبت بين الرئيس المخلوع وبين أبناء الشعب، بحيث ترك وحيدا لمواجهة مصيره حتى من أقرب المقربين له، وهذا الدرس ينبئ بالكثير، فالشعب مثلما هو مصدر السلطات فأنه أيضا يمنح الحصانة والحماية لمن يحكمه إذا ما أنشأ معه علاقة طيبة وثقة متبادلة، والعكس فأن أبسط الهزات قد تطيح به، وعليه فأن الحكومة اليوم بأمس الحاجة لبناء جسور الثقة مع شعبها خصوصا فيما تطلقه من إجراءات للإصلاح وخطوات لمحاربة الفساد فاذا ما نجحت في تمتين هذه العلاقة بمصداقيتها فيما ستعلن فأنها ستجد عوامل أخرى للنجاح وللقوة والعكس بالعكس.
إن العراق يحتاج إلى وضع سياسات جديدة للعمل السياسي فيه، ترتكز على الإيمان الفعلي بالتغيير والإصلاح وعدم أحتكار السلطة والإستشارية الحقيقية ومنح الصلاحيات وتوزيع الثروة وإستثمارها بعيدا عن البؤر المظلمة والنظر بنظرة واحدة لكل المواطنين وتقديم أصحاب التضحيات وفرض القانون على الجميع، ليطمئن الشعب ويضع ثقته بمن يقود الأمور وعندها ستتقلص المسافات البعيدة بين الشعب والحاكم وتصبح الثقة متجذرة وننتهي من بداية لم تكن موفقة وأن كانت تمثل نهاية لكابوس الحكم الشمولي.
*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية.