حمولة استبطانية كبيرة تعكسها لوحات الفنانة اللبنانية تغريد دارغوث في غاليري صالح بركات– بيروت، فلا حاجة لها لتصوير جنود الاحتلال، ولا النساء أو الأطفال المهضوم حقهم في فلسطين المحتلة، بل تكتفي باستعارة عنوان الشجرة في تجلياتها، وألقها، وتاريخها، وإحاطتها، وتعبيرها كثيمة دلالية على القضية الفلسطينية لتعبر عن مدى الألم والسمو اللذين يتمثلان بالشجرة وقد تواءما في حضن الثورة والاستشهاد والتموسق باتجاه الصبر والنصر.
لعل في استعارة المفردات بخاصة من الطبيعة والحياة المحيطة بالبشر، لا سيما إن اتسمت بالكثير من الأعراف والتواريخ، بطابع يقربها للقداسة كحال شجرة الزيتون على سبيل المثال لا الحصر، طرح جدي يؤكد على الرسالة من وراء الفن، في ظل حركات ومفاهيم تشكيلية جديدة وطارئة تفرغ الفن من الرسالة والهدف، وتنزع به باتجاه اللامعنى. من هنا فدارغوث بعملها حول مفردة الشجرة، وبتصويرها للأشجار المتعملقة والتي تنشر أغصانها في فضاء اللوحة، حتى يكاد الإطار يضيق بها، وأخرى مقطوعة غير أن جذورها ما زالت ممتدة في الأرض، تستنبط حال الفلسطيني المقيم في وطنه والآخر اللاجئ، فقد نعما بقداسة الانتماء والصبر والتمسك بالقضية وتمريرها للأجيال اللاحقة كمؤونة تستلهم الإنسانية زادا.
تتعدد الأحجام والأقيسة للوحات المعروضة، كما يتعدد التناول، ففي زاوية أولى تظهر مجموعة من اللوحات التي تمثل أشجار الزيتون المتعملقة بتلافيف جذورها وجذوعها وأغصانها وأوراقها، إلى تلك المقطوعة لكن الثابتة في الأرض كأوتاد تأبى الزوال. وفي زاوية أخرى هناك رفوش الجرافات التي لطالما استخدمها المحتل لنزع الجذور. وفي أخرى دبابات … مع وجود عناوين أخرى ثانوية بدلالاتها، حاضرة بتكاملها مع روح المعرض.
اختارت دارغوث الشجرة كهوية، وعبرت عنها أولا من خلال العنوان Analogy to Human Life وقاستها على الإنسان، فشجرة الزيتون التي اكتسبت جلالها بدءا من التشريعات السماوية، ووردت بالكتب المقدسة كتعبير واستعارة لنور الخالق، وسمو نتاجها أعني به الزيت ورفعته، تضمنت في تجربة الفنانة مزيدا من الزخم في تلازمها مع الإنسان، وإذ يغيب العنصر البشري عن لوحات دارغوث في هذا المعرض، أو في التدليل على ما احتوته لوحاتها من إشارات، فلعل ذلك كان مدروسا من قبلها ومقصودا، فلم ترد الفنانة أي إحالة مباشرة على الفاعل والمؤثر في قضايا الانسان ألا وهو الإنسان نفسه بمفرداته ونوعه. بل رغبت بتعميق البحث في خبايا التضمن للذوات – التي قد لا يصح في تجربة دارغوث وصفها بالجمادات – المحيطة بالإنسان، والتي تتعمشق في ألقها كسمات ذات تلازم واضح مع حقيقة زرع الروح بمتعلقات وطن، تظهر الوطن السليب من خلالها، وتؤطر ألم البشر بوساطة التشبيه والاستعارة بمفردات النزع والاقتلاع للشجرة المباركة، من خلال تسليط الضوء على شأن له ثقله في الذاكرة الفلسطينية والعربية، وقامت بترجمته تشكيليا بأبعاد تنحو باتجاه تمظهر المأساة في مصاحبة لصيقة مع الصمود.
لا يغيب في معرض الفنانة دارغوث من خلال أعمالها المعروضة حتى 27 أكتوبر / تشرين الأول، بعد المظلومية، فمن يشاهد أولا تلك اللوحة الكبيرة التي تستقبله على باب الغاليري، والتي تمثل شجرة زيتون عملاقة هرمة تلوح للناظر بأغصانها وأوراقها، وتنجدل بألوان ثقيلة في جذوعها وتمتد بجذورها عميقا ضاربة بالأرض، يشعر المرء إزاءها بالحبور والغبطة، التي لا تلبث أن تتلاشى تدريجيا أمام عنف السلب والقطع الذي تطالعه بها مجموعة من اللوحات الصغيرة نسبيا والتي تظهر جذوع أشجار الزيتون المقطوعة، وكأنها تنقل لنا تاريخية المأساة في ثنائية الما قبل والما بعد، فالأولى تسبح في فضاء الحرية والاستقلال والثانية تنزوي ببقعة ضيقة، مع التشديد على عدم استسلامها أو تسليمها بالواقع المفروض. وإذ تعتمد الفنانة في أسلوبها على الضربات القوية والثخينة والسميكة بألوان الاكرليك على عمق اللوحة، والخلفيات المزدانة بعبق لوني فياض ومتقلب غير أنه متوائم مع المفردة محل التناول، مع عنف مدروس غير فوضوي في توزيع الكتل، وتسليط الإضاءة، وبناء الانسجام العام التعبيري لهيئة اللوحة.
ربما الكثير من الفنانين قد عملوا على القضية الفلسطينية تاريخيا وصولا إلى زمننا الحالي، ولعل كثيرا منهم أرخوا لمأساتها وصمودها في آن من خلال مفردات وثيمات متعلقة بطبيعة المجتمع الفلسطيني وإنسانه ومحيطه الاجتماعي والثقافي ومقاومته. غير أن ما يجعل تجربة الفنانة دارغوث جديرة بالذكر هنا، أنها واكبت بين التمكن التشكيلي كلغة لونية عالمية عالية المستوى، واللامباشرة في طرح قضية سامية بسمو فلسطين ومآثرها، واختيار الفكرة العامة التي خصصت بحمولة ذات حضور ألق وثقيل تبلورت من خلال الفعل ورد الفعل، أي التعملق في فضاء رحب والقلع والقطع، بمعنى آخر المقاومة بالحالات التي تمر على شجرة الزيتون في فلسطين المحتلة، والتي تعبر خير تعبير عن حالة الإنسان الفلسطيني بظل عقود من القهر.
شجرة الزيتون الفلسطينية بمخيال وريشة الفنانة دارغوث
التعليقات مغلقة