سوزان عليوان.. النص الشعري المقيم في فضاء البراءة

عبدالكريم كاظم

تكتب الشاعرة سوزان عليوان نصاً متداخلاً هو أن تعطي للواقع والتحربة أو لتفاصيل حياتها اليومية أو للذات الشاعرة شكلاً مختلفاً، أي شكلاً مستقلاً وبما أن النص الشعري لا يمكن أن يُكتب بشكله النهائي فإن ما يُكتب منه يدفع الشاعرة باتجاهات متنوعة متصلة بالتجربة أي أن يدفع المعنى، بدوره، نحو الأبعد أي أنه، بتعبير آخر، يفصل بينه وبين ما يكتب، وعليه لم تكن نصوص الشاعرة تشير إلى أسلوب بعينه أو إلى شكل بعينه بل كانت تنقلنا دائماً إلى فراديس ضائعة وأخرى محسوسة وغابات برية بيض كأنها في التخوم القصية للذاكرة والمخيلة والطفولة حيث لا تضيء سوى قناديل الرغبات والأحلام والأمنيات وحتى الأحزان المعلنة أو المخبأة كما جاء في هذا المقطع الشعري: (ليست أنا في الصورة المعلقة على الجدار، طفلة تشبهني، ولولا أنها تبتسم لظننتها صورتي)، وكذلك في هذا المقطع: (مكانك في المقهى ليس خالياً، بعد رحيلك جاء عصفور وجلس في ركنك)، وفي أكثر الحالات حسية يتحول النص الشعري إلى حلقة للمعنى المتصل بجمالية اللغة التي تدور بين المفردات والعبارات والجمل الشعرية.
النص الذي تكتبه سوزان يتدخل في اللحظة الشعرية ليقلب المعنى رأساً على عقب، كأن هذا النص أو ذاك يلامس اللغة يصفيها من أدران المألوف وينقلها إلى خانة الجمال المغاير، كما يدخل أيضاً في ملكوتها الخاص وكأنها تدفع الكلمات والمعاني والدلالات نحو تخومها القصوى أو مطلقها الخالص المتصل بعالم الطفولة وقد لمسنا ذلك في هذه المقاطع الشعرية: (أرجوحة النعاس، نم عميقاً كأرقي)، و(أرى أطفالاً يصنعون من قصائدنا زوارق دمع)، و(الغريبة: حملت نعش طفولتي على كتفي ومشيت في جنازة أحلامي)، و(أطفالك: في ظل نخيلك، نبتَ طفلٌ)، و(من ألوانك وُلدت طفلة).
مع نصوص الشاعرة يتحول القارئ إلى طفل يركض في ملاعب طفولة غابرة وطرقات محفوفة بالصراخ والضحك والبراءة، فإن الطفولة هي الزمن الحقيقي المتصل بالشعر، نصها هو الإقامة داخل طفولة أبدية لا يطالها الزمن ولا تصيبها أعراض الشيخوخة الشعرية. ولعل نصوصها، أيضاً، كانت أشبه بمرآة لاتساع حلم الطفولة الذي يتكئ على المخيلة أو وحدة المعرفة المتصلة بالكتابة الشعرية والقراءة النقدية أو حلم أساسه الطفولة أو طفولة أفقها حلم الشاعرة الذي يلفها من تخوم المعنى إلى أقصى الدلالة، لنقرأ هذه الالتقاطات: (دمعة: طفلة مبتلة الثوب، تركض من ضفة النهر إلى عيني)، و(أسطورة المطر: المطرُ على نوافذنا، دمعُ أطفالٍ رحلوا) (ضفيرة: تعانقتا في العتمة كضفيرة في شعر طفلة).
الطبيعة والأحلام، الطفولة والذاكرة والحياة هي مقياس الزمن الشعري الذي يذهب بالقارئ ـ الشاعرة إلى المعاني ويحيلها إلى دلالات تتحدث بمنتهى التجرد عن رموزها وإشاراتها، تجاربها ومواقفها وكأنها أيضاً تنقل الزمن الشعري من إطاره الذهني إلى إطاره المحسوس الذي لا يشير إلى السنين بل إلى فصول الشاعرة المتعاقبة والمتماهية مع نصوصها الشعرية، لنطلع على هذا النص الذي يؤكد ما ذهبت إليه القراءة النقدية: (من أين نبدأ في مثل هذا الخواء الشاسع؟ وإلى أي هاوية سيقودنا الأسف) أو قولها: (كل منا حائط وظل، ولوحة خالصة بحالته)، و(كنا على يقين أن أرصفة متصدعة كرؤوسنا ستنبذُنا من دون رفاق أو موسيقى، وأن أسناننا سيحرثُها الضحك).
في نصوص سوزان أيضاً حضور كثيف للبراءة، فالنص المقيم في فضاء البراءة يأتي محتشداً بالأسئلة أو بجميع أشكال الروائح والألوان والأصوات والأطياف، وكأنها تدفع بمعنى النص إلى نهاياته القصوى، كما أسلفت، في مواجهة شيخوخة العالم، ففي عالم سوزان الشعري، أعني طفولة النص وبراءته، تبدو الطفولة هي الوحيدة التي تعصم من الشيخوخة وهي التي ترتق شروخ الروح وتحميها من العدم والتصدع والانكسار، أنها دائرة البراءة التي تدفع التسوس والتآكل إلى الخلف وتبقي النص معتصماً بشجرة الحياة والكتابة الشعرية الجامحة، لهذا السبب استطاعت سوزان أن تجعل من نصوصها خيمة ملونة للقارئ وبسببه أيضاً وزعت معاني نصها بالتساوي على أغلب عباراتها وجملها والتقاطاتها الشعرية، لنقرأ هذه الجمل: (كان الحنان أول من سقط منا)، و(كأن الليل أطول من أذرعتِنا في العناق)، و(لابُدَّ أن شبحاً يقيم حيث كان لي في الزاوية سريرٌ)، و(من أطفأ الأباجورة العالية في غرفتي).
أغلب نصوص سوزان تكاد تكون مسلسلاً لا نهاية له من الحكايات، المتصلة ببعض المخلوقات والأشياء الجامدة والقصص، تروى كل منها في مقطع شعري واحد وأحياناً في عدة مقاطع أو التقاطات شعرية، ومن هذه الالتقاطات الموجزة جداً ما يحكي ألفة وغرابة وأصوات المخلوقات أو بهجة الأحلام ودفق الحنين إلى طفولة غائبة أو ماض لم تبق منه إلا الذكريات: (سمكة ميتة: أسنان بشحوب المعنى، رائحة مخذولة الأنفاس) (نعامة صغيرة على الحب: كأنما قلبها علبة ألوان) (قبل أن يرسمها الله: صرصارُ ليل على الحائط يغني، كل حجرة زنزانة، كل آخر جسر إلى الذات) (كرسي من قش لا يشعلهُ الحنين: وحيدٌ بقدر ما في البحر من زرقة وجثث) (الفراشة: العصافير الرمادية لا تصدق أنها لا تستعمل المساحيق لتزيين جناحيها) (فزاع الطيور: يحلم بالعصافير تلامسهُ من دون خوف) (عكاز من أنين النايات: أمُرُّ كغريبة على ألمي) .(فنجان حزين جداً: كيف له أن يحضنها فيما تقبله وله ذراع واحدة؟) ومنها ما يحكي التجارب الذاتية المتماهية مع الطفولة: (طفلة تحلم: شريط في شعر طفلة تحلم بأن تكون فراشة/ فراشة تحلم بأن تكون شريطاً في شعر طفلة) (كائن اسمه الحب: زهرة الكترونية تتنهد، لو يضمني كتاب).
السياق الفني اللغوي، في نصوصها، يأتي إمّا في صيغة استفهام أو في صفة حوار متكافئ مع الذات أو الكائنات المحيطة بعالمها الشعري وإما في صورة سرد للأحداث والأمكنة والتفاصيل، وهذه البراعة في تضمين النصوص بعبارات أو جمل شعرية بالغة البساطة وبالغة التركيز، مع القدرة على أن تخلق ببضعة مقاطع مناخاً درامياً تارة أو طقساً من الفرح المطلق تارة أخرى، لنتأمل هذه العبارت: (وله: أهي الوجوه كلها تشبهُهُ؟ أم أنها لفرط الولع في كل وجه عابر تراه) (حذاء بحجم قصيدة هايكو: كحبتي كرز تلمعُ فردتاهُ في راحتيهما).
المضمون الذي يحمله نص الشاعرة من الصعب اختزاله في هذه القراءة، ولكن حسبنا أن نقول إنه في غالبيته يدور بشأن التجربة الذاتية والطبيعة والحياة وما يضطرب فيها من جزيئات ونوازع وقد تأخذ علينا القراءة تغافلنا عن الإشارة إلى أهمية عناصر وكائنات وموجودات قائمة داخل التجربة ويرد ذكرها باستمرار في هذا النص أو تلك المجموعة مثل الأغصان، الورقة، النهر، السحابة، الأمطار، الغيمة، الأشجار: (كلما انهمرت من أغصانها ورقة جفل ظلها كحصان) (لن يتبعني النهرُ) (لن تصحبني في الرحيل السحابة) (كانت الأمطار بصفحاتها الناصعة تتوالى كتاباً غادرته الكلمات) (تسألني الغيمة ذاوية بلا وجه، بلا إجابة) (خذلتني الأبواب فاحتميت بالأشجار إلى أن غادرتني ظلالها) وفي الحقيقة فإن ما يبدو هو نوع من التجريدية في شعر سوزان بحيث يتوزع الاهتمام الفني واللغوي والجمالي بين النص الشعري من جهة ورؤية الشاعرة المجردة للعالم والطبيعة من جهة أخرى، إذ أن الحدود أو الفواصل تمحى بين التجربة والكائنات والموجودات الأخرى في هذا العالم السحري الذي تمكنت الشاعرة في خلقه عبر هذه الصياغات الموجزة الموازية لمفرداتها الشعرية.
موضوع الحب في شعر سوزان عليوان هو الشكل الجمالي الذي يعيش في عالم الطفولة، تنعشه الأفكار الشعرية وحرية الكتابة، فيتنفس هواءه، أعني مفرداته، من رئتيهما، أعني التجربة والخيال، ويستمد غذاءه، أعني لغته، من شجرة الواقع وثماره، أعني معانيه ودلالاته، وما تنتجه مساحة الخيال من وفرةٍ في حركية الحياة وتقاطعاتها المتصلة بالنص الشعري ومن جدلية الحوار وتطابقاتها المرتبطة بالواقع، وموضوع الحب، في نصوصها، هو المجاز والصورة والتورية وما تختزنه التجربة الإنسانية المتصلة بالكتابة، من آمالها وآلامها، أحلامها وكوابيسها، من هذا القاموس ومن جميع ما فيه من مفردات حيادية المعاني استلّت سوزان موضوعاتها المتصلة بالحب والموازية لحركية الحياة وتداخلاتها المتنوعة لنقرأ بعض المقاطع من مجموعتها الشعرية المعنونة ما يفوق الوصف: (كيف: كلما فكرت في تركِكَ كمن يكفر بكل ما يعرف ويحب) (حيث الغيوم: من حنانك ترعبني حدة المنحنى) (ملامح روحي: في الخوف أعرفك أكثر) (ظلالك: لا شيء يعادل قربك) .. ولموضوع الحب، أيضاً، مجال رحب للكتابة تقف من خلاله الشاعرة على هذا النص وتلك الدلالة وتترك التفسير للقارئ الذي يتعاطى مع الصور الجمالية المتماهية مع التجربة أو المخيلة من جهة والرؤية المجردة من جهة أخرى وعليه يمكننا القول أنها في هذا المقام، المتصل بموضوع الحب، كانت وفية للمعاني مثلما كانت وفية للإشارات أو للخيال الذي ترجم هذه التجربة أو تلك، لنقرأ هذه الإشارات: (كأنك من هواء: توت باكر أنفاسك ونكهة صيف) (لملاقاة الايائل: لو انّ الحياة تفاحة تحاورنا) (هذه وجوهي: ألوان مائية على غابة).
علاقة سوزان الشعرية ـ الحسية مع اللغة كانت رمزاً لعلاقة جمالية من جهة ورمزاً لعلاقة فنية من جهة أخرى وبذلك تكون سوزان قد ردّت جزءاً من علاقتها الحسية ـ الشعرية للغة النص، وهكذا أيضاً شاءت الشاعرة أن تنفتح نصوصها على سائر المعاني المتناثرة، لنقرأ طبيعة هذه العلاقة في هذه العبارات المختارة من ديوانها «معطف علق حياته عليك»: (الماسة: آه لمنديل يد، لهمهمة يمامة) (أرض الأحلام: كل الأشجار، لمحة من شالك) (هل يتيه شاعر في قاموس قلبه) (قصتنا سرب سنونوات، طفلنا تمثال لا يكبر) (كعمر لا تكسوه استعارة) (كإله له ما ليس لهامة) (للكأس بدورها ان تدلي بدلوِها).
مرة أخرى نقول: لا يتبدى موضوع الحب فقط عبر المفردات اليومية التي تدرجها الشاعرة في متن النصوص أو في البعض من عناوين مجاميعها الشعرية (كائن اسمه الحب، الحب جالس في مقهى الماضي)، وانما أيضاً في انفتاح الشعري على اليومي والذاتي والعابر.

خاتمة:
في تعبير لفظي جمالي، يتصل بعناوين مجاميعها الشعرية، تطرح سوزان عليوان خيار الخلاص، المتماهي مع الحياة، من خلال العودة إلى طفولة النص الشعري المقيم في فضاء البراءة، وفي ضوء قراءتي لطبيعة العناوين: (عصفور المقهى، مخبأ الملائكة، لا أشبه أحداً، شمس مؤقتة، ما من يد، كائن اسمه الحب، مصباح كفيف، لنتخيّل المشهد، كراكيب الكلام، كل الطرق تؤدي إلى صلاح سالم، ما يفوق الوصف، رشق الغزال، معطف علق حياته عليك، بيت من سُكّر، الحب جالس في مقهى الماضي)، يتشكل الانتقال اللغوي من لفظة إلى لفظة أخرى، وهنا يصل شكل الانتقال إلى الحيز الجمالي المفتوح على المعاني والدلالات المتناثرة في النص، ومن جهة أخرى، بوسع القراءة النقدية أيضاً أن تقيس كثافة اللفظ أو جماليته ومن ثم سنصل على الفور أو نتلمس زخم المعنى، وفي كلتا الحالتين لا يتعارض القياس النقدي مع مبدأ الإيجاز اللغوي المتصل باللفظ الموازي لهذا العنوان أو ذاك.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة