توثيق لحياة الشاعر شريف الربيعي بدءاً ببغداد وانتهاءً بمستشفى لندني
شكيب كاظم
في طقسي الأسبوعي الذي يكاد يكون ثابتاً, الذهاب إلى شارع المتنبي, وزيارة بيت المدى للثقافة والفنون, ومعاينة رفوف مكتبته الفارهة, وغالباً ما أكون مدعواً للمشاركة في طقس من طقوس هذا البيت الثقافي الرصين, الذي آل على نفسه الاحتفاء بالشواخص العراقيين, الذين رحلوا أو الذين مازالوا يواصلون الدرب, وإذ أعاين في رف من رفوف المكتبة الكتاب الذي أصدرته (المدى) عام 2015 والذي وسمه فوزي كريم بـ (مراعي الصَبّار) وجب علي أن التقطه وأقرأه بحنو, فأنا أجد علاقة روحية تمتد بين هذا المبدع, وبيني على مدى عقود فهو كان صديقاً لصديقي الشاعر محمد حميد الموسوي, الشاعر الذي تخرَّمه الردى سراعاً وهو ما يزال في عزّ شبابه, بسبب إدمانه الخمر, وتليف كبده وغادرنا في يوم الخميس 28/ كانون الأول 1978ولو امتد به العمر, أو لو أمهل نفسه, وما عاملها معاملة عدو فقتلها بالتي كانت هي الداء, لكان له شأن في عالم الشعر أي شأن فقد كان شاعر قريض وتفعيلة وشعر بالعامية وظللت احتفظ بديوانه الوحيد المخطوط الذي وسمه بـ (النزيف), وما زلت أحتفظ بالكتاب الذي أهداه فوزي كريم لمحمد حميد الموسوي, ووشحه بالعبارة التالية: العزيز محمد الموسوي هذه الدراسات, أرجو أن لا تبدو جافة. مع المودة. فوزي في 21/10/72.
كان هذا هو كتابه الثاني الذي أصدرته مديرية الثقافة العامة بوزارة الإعلام العراقية عام 1972 وعنوانه (من الغربة حتى وعي الغربة) بعد مجموعته الشعرية الأولى (حيث تبدأ الأشياء) 1969, كما كنت أراه في مقهى فاضل بكرادة مريم, الحديقة الغناء الجميلة, صحبه الشاعر الوجودي العابث شريف الربيعي, بصوته العالي ومعابثاته المحببة هذه المقهى التي يصفها فوزي كريم بكتابه هذا « كانت (….) حديقة حقيقية يضاهي جمالها أبهة مبنى السفارة الإيرانية المجاورة» ص102.
فوزي ينشر المنتقى من كتاباته
دأب فوزي كريم على اختيار منتقيات من مقالاته ودراساته, التي يجدها جديرة بالبقاء, ويصدرها في كتب بعينها, فاصدر في هذا المجال, عدداً من الكتب, منها كتابه البكر الذي سبقت الإشارة إليه والذي يمثل بداياته, وما أعاد نشره فضلاً عن كتابه (ثياب الإمبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة) و (العودة إلى كاردينيا) وكاردينيا لمن لا يعرفه, مشرب مطل على شارع أبي نواس قبل أن تُضْرب الحياة في العراق ضربات قاصمة, ولاسيما اثناء الحملة الإيمانية في التسعينات من القرن العشرين, وكتابه الآخر (يوميات نهاية الكابوس) و (تهافت الستينيين, أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي).
لعل من أروع فصول الكتاب السبعة التي ضمها هذا الكتاب المعرفي الجميل, والذي ملك علي كل عواطفي وأحاسيسي, هو الفصل الذي أعطاه عنوان كتابه (مراعي الصبّار) والذي يصف لنا فيه فوزي كريم إرهاصات المرض الوبيل الذي ألمَّ بالشاعر الوجودي شريف الربيعي, ومؤشراته الأولى, المتمثلة بالقيء واحساس سريع الزوال بالعجز عن الحركة « حدثت الاعراض الأولى في بيته, حين التففنا على وجبة سمك مجفف (…) والثاني في مطعم هندي (…) بمناسبة زيارة صديقه عبد القادر الجنابي من باريس, في كليهما انتفض شريف الى التواليت…» ص91.
وثالثة يوم يدعوهما الأديب المغربي محمد برادة لزيارة الرباط, وأخرى في بيته, وهنا أخضع جسده للفحص, ويالهول ما تمخض عنه الفحص الطبي, ولا سيما لرجل مثله يصفه فوزي بـ (خاصية الهلع من المرض).
المرض الوبيل يعصف بشريف الربيعي
وعلى مدى نحو أربعين صفحة, هي صفحات هذا الفصل الذي قرأته أكثر من مرة(مراعي الصبار) الذي أفصح فيه فوزي كريم عن إمكانات تعبيرية عالية, وقدم لنا صوراً مؤثرة, تحاكي الشريط السينمائي للأيام الأخيرة لشريف الربيعي, منذ الأعراض الأولى – كما سبق وذكرت- وحتى النزع الأخير فالمغادرة عند الساعة العاشرة وأربعين دقيقة من يوم الثلاثاء العاشر من أيلول 1997, عائداً فوزي كريم فيما يشبه الاسترجاع وانثيال والأفكار والمعروف نقدياً بـ (تيار الوعي), إلى بدايات تعرفه بشريف الربيعي, صاحب الدكان القريب من مقهى فاضل في كرادة مريم, الساكن في صرائف قرب خزان الماء, والذي عرف بالشاعر الوجودي, التي وجدها أسلم من الشاعر اليساري, هو خرج مثخناً بالجراح, جراح السياسة العراقية العاصفة, إذ كان أبناء هذا الجيل الستيني– كما يقول فوزي كريم- مولعين بسارتر وكامو وكل ما يرد من الغرب, عبر منخل بيروت, هذه الموجة رفعتهم قليلاً خارج تيار الحياة اليومية رفعتهم قليلاً عن الأرض, وصار واحدهم يعيش حياة لا تختلف عن الوهم.
حمى نشر البدايات
وإذا كان فوزي كريم منظماً, على الرغم من عيشه خارج تيار الحياة اليومية, التي يحياها عامة الناس فانه نشر الكثير من نتاجه على مستويي الشعر والنثر, ظل شريف الربيعي, من غير إرث, فإرثه موزع بين القبائل, موزع في الجرائد والمجلات, الحياة العابثة ولاسيما للشعراء, تدفعهم للفوضى , فهما, فوزي وشريف يزمعان طبع أشعارهما الأولى ونشرها طبعة مشتركة, تولى فوزي كتابتها بخطه الجميل, وبدفتر يطوفان به على المطابع والجرائد فما يجدان سبيلاً للنشر, فهما ما كانا معروفين ولم تترسخ بهما القدم, هما يريدان مواكبة زملائهما, وإذ استولت على مبدعي جيل الستينات, أو عقد الستينات على وجه أصح وادق, هذا الجيل المشاكس, الذي حاول نزع طيلسان الرواد, أو هكذا تصوروا الأمر, أو صُور لهم, ضربته حمى نشر النتاجات الأولى, في محاولة للإفصاح عن الذات وتأكيدها, واضعين في الحسبان فورة الشباب واندفاعاته, فنشر مالك المطلبي مجموعته الشعرية البكر (سواحل الليل) عام 1965, فكان أول من أجترح هذا الطقس ليلحق به سامي مهدي, فينشر بداياته الشعرية التي وسمها بـ (رماد الفجيعة) 1966, فضلاً عن القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي القادم للعاصمة من مدينة الناصرية دارساً للفن, ومشتغلاً في الصحافة, ومشرفاً على الصفحة الثقافية في جريدة (الأنباء الجديدة) الأسبوعية التي كنت حريصاً على مطالعتها, فنشر الربيعي مجموعته القصصية (السيف والسفينة) وتتوالى النتاجات البكر الشاعر حميد سعيد في (شواطئ لم تعرف الدفء) 1968, وموسى كريدي (أصوات في المدينة) 1968 وعبد الستار ناصر في (الرغبة في وقت متأخر) 1968, فضلاً عن جليل القيسي الذي أصدر (صهيل المار حول العالم) 1968, وينشر فاضل العزاوي في سنة تالية روايته المكثفة (القلعة الخامسة) 1969, وحسب الشيخ جعفر, مجموعته الشعرية (نخلة الله) وثالثهم خالد علي مصطفى (موتى على لائحة الأنتظار).
ونظرة إلى عناوين هذه النتاجات الأولى, وتأريخ نشرها يجعلنا نقف عند حقيقتين: وأولاهما: الصور المأساوية والفاجعة للعناوين, وثانيتهما عدم صدور أي مطبوع سنة 1967, فالناس تعيش تحت وطأة كارثة الهزيمة, لذا كان من طبيعة الأشياء, أن يحاول فوزي كريم وصديقه الأثير شريف الربيعي, نشر مجموعتهما البكر التي سمياها بـ (صوتان من المدينة) إلا إن هذا المشروع لم يتحقق – كما كتب فوزي كريم. لسبب لم يعد أذكره, كان شريف يكبرني عمراً بقليل, ويسبقني سمعةً, ولعل أحداً أبطل همته في مشروع نشر قصائده مع شاعر ما زال يجلس على حافة الستينيين, ولم يسهم في حفر مجراهم كما فعل شريف آنذاك.
أخذت نصف الدفتر, واضفت له بقية القصائد, ونشرته تحت عنوان (حيث تبدأ الأشياء) في حين أهمل شريف مجموعته حتى يوم مماته, ولم يخرج بعضها إلى النور إلا في (المختارات الشعرية) التي صدرت أواسط 2002, المدهش أن شريف ظل محتفظاً بنصف الدفتر ذاك, بخط يدي, حتى سنوات إقامته الأخيرة في لندن… تراجع ص 105.
وكما أهمل شريف الربيعي, نشر شعره, لفوضى حياتية, ونزق يطبع حيوات أكثر الشعراء, إلا من رحم ربي, الذي وصفهم أروع وصف, فقد أهمل الشاعر العابث المشاكس هو الآخر وليد جمعة (حميد المشهداني) نشر شعره في حياته حتى إذا طواه الردى الذي لا يرحم في شهر أيلول 2015, نشرت دار الجمل ديوانه اليتيم والوحيد الذي ما كحل عينيه بمرآه (الغروب النحيف), صدرت طبعته الأولى سنة 2016بـ (112) صفحة قرأته في 14 من شباط /2016, وليد جمعة, الذي التقيت به أكثر من مرة صحبة شقيقه حميد جمعة حميد صديقي وزميلي في مصلحة توزيع المنتوجات النفطية والغاز فرع المنطقة الوسطى, التقيت به في مقهى إبراهيم والتي يجب وليد أن يسميها (كهوة إبراهيم), التي تعرف بـ (مقهى المعقدين) كان ذلك بداية العقد السبعيني (1973) والذي كثيراً ما دخلت مع حميد في نقاش وأنا أراه يقرأ الأشعار المترجمة, ناعياً يحب عليه ضياع الفائدة, إذ لا يبقى من الشعر المترجم بعد ذهاب الوزن والإيقاع أي شيء وهل الشعر إلا وزن؟ حميد الذي غادرنا سنة 1979, وانقطعت أخباره, ترى أين صديقي حميد جمعة حميد؟ أين لبيب محمد عطية السامرائي زميلنا في النفط, الذي غادرنا هو الآخر بداية الحرب في أيلول /1980 قبل منع السفر؟
وأنا أٌقرأ هذا الفصل الجميل والمهم والذي صبَّ فيه فوزي كريم ذوب روحه وحشاشة نفسه, وهو يحدثنا عن صديقه شريف الربيعي, كان يطرأ على ذهني ما سطره الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة دارساً حياة صديقه جبران في كتابه الرائع الموسوم بـ ( جبران خليل جبران. حياته. موته. أدبه. فنه) الصادرة طبعته الرابعة عن داري صادر وبيروت سنة 1960, إذ درسه دراسة علمية بعيداً عن دواعي الصداقة والمجاملة, فأبان مواطن الضعف الإنساني إلى جانب مواطن القوة, وكان فوزي كريم في ذلك كذلك.