ثمة وشيجة بين الثقافة والأرض، لا يمكن تجاهلها أو إغفالها لأي سبب كان. ليس لأن الاثنتين تؤديان مهمة واحدة فحسب. بل لأنهما توحيان بالقدرة على الابتكار. وفي حقب سابقة كانت مفردة الثقافة في علم الاجتماع الغربي تطلق على الأرض، لأن معناها حينئذ كان يؤدي الغرض ذاته.
في حي شعبي قائم على أرض رطبة وسط برك آسنة من مياه الأمطار، لا يمكن للمرء إلا أن يعود إلى هذا الأصل، ويتساءل فزعاً هل الثقافة حقاً هي هذه القاعدة الهشة، التي تغور أقدامنا فيها، أو أنها شئ آخر مغاير تماماً؟
قال أحدهم ذات مرة أن عالم ما بعد الحداثة جعل من فكرة العادات والممارسات أساساً لمفردة الثقافة، متجاهلاً أن ثقافة كهذه هي التي تحكم الهامش. في ما تبدو النخبة عاجزة عن تقبل مثل هذه الفكرة حتى الآن، لأنها تؤمن أن الثقافة هي نتيجة الجدل الطويل بين الذات والآخر.
ربما يبدو الغزل الذي استخدمه الكثير من الكتاب للتقرب إلى الهامش نتيجة مباشرة لفكرة الجماهيرية التي شاعت في منتصف القرن الماضي، واستخدمت سياسياً على نطاق واسع في حينه. كان مجرد الحديث عن الفقر والجوع والعري يجذب الكثيرين. حتى أولئك الذين عاشوا في أقصى حالات الترف. لكن هذا الغزل الصريح حمل في طياته بذور المؤامرة، حتى لا يتلوث الهامش بالثروة والغنى ورأس المال!
هناك فارق كبير بين التعاطف مع شريحة ما، والإعجاب بها. الأول يؤدي مهمة نبيلة ، تكمن في إعطاء جرعة من الأمل. أما الثاني فيكرس الضعف. الأول يقوم على المبادرة، والثاني يحتكم للرومانسية.
حينما أكون هناك لبرهة من الزمن أشعر أن ثقافة الستينات ما تزال حية في بلادنا رغم تبدل الأحوال. في بقاع أخرى من هذا العالم أخلت هذه الثقافة مكانها للتعددية العرقية والمذهبية واللغوية. أصبحت مسألة الأقليات الشغل الشاغل للمنظمات والجمعيات والمؤتمرات الدولية. ولم تعد تحفل بالفقر، أو تحتفي به. لأنه – أي الفقر – آخذ في الانحسار. أما أنماط السلوك البدائي فقد غدت موضوعة خاصة بالدراسات الأنثروبولوجية فحسب.
لم يكن الفقر في حد ذاته قيمة مطلقة، فهو متغير مثل كثير من الأشياء التي تحيط بناً. بل إن من الصعب الآن تعريف الفقر، أو تحديد هويته. فهو يتراوح بين انخفاض الدخل إلى الحرمان من التعليم إلى الحصول على قدر من السعادة! ولكن لم يحدث أن وضعت بلدان جنوب أوربا الغارقة في الديون في خانة الفقراء أو المعوزين، كما وضعت بلدان أخرى أفضل منها حالاً في آسيا وإفريقيا.
الأرض بالنسبة للأوربي الذي قضى زهرة عمره فيها هي شئ آخر غير الأرض التي لم يتوقف عندها سواه إلا برهة من الزمن. ثمة قدر من الوعي يعود به الرجال كل يوم، بعد انتهاء وجبة عملهم اليومية، لكنه ليس كافياً لإخراجهم من هوة الفقر. ثمة من يعتقد أن تحدي المراتب الاجتماعية العليا هو الذي يجعل ثقافة الهامش تواقة لاسترداد مكانتها السابقة. حينما تشعر بالاستقرار تخمد جذوة الطموح لديها. لكنها في بلادنا ماتزال عاجزة حتى عن المضي في هذا الشوط إلى نهايته.
في هذا الحي المفرط في شعبيته، يتكدس الناس على شكل عائلات مركبة، وتخضع حياتهم لروابط شبه قبلية. لم تكن مسألة مثل العلاقة بين الثقافة والحضارة في يوم من الأيام موضع نقاش. فالإخفاق في تعريف الحضارة أو الإلمام بقيم ثقافية جديدة هما اللذان يلهمانها السخط على الخارج.
إن الذعر ليتملك الفرد وهو يجد وسط هذا الحي وأشباهه مقرات مفترضة لزعامات ثانوية تحل محل الدولة، على فرض أن الأخيرة لا تمتلك صفة الدوام، وتتجاهل النوازع الفردية والقبلية. في أماكن كثيرة في الغرب توجد مؤسسات كنسية تقوم بالإشراف على شؤون الرعية خارج نطاق السلطة، لكنها لا تتقاطع معها. في هذا الحي يعمل الجميع على تجسيد السلطة الأبوية، دون أي قدرة على القيام بنشاط كهذا.
ليس ثمة شك أن معايير الفقر على أرض غير صلبة لا تخضع لتصنيف حقيقي، مثلما لا تخضع الثقافة هناك لفكرة منظمة. كل ما في الأمر أن تكرر ظهور أحياء كهذه في أزمان متقاربة أو متفاوتة، يجعل من الصعب الحديث عن ثقافة شعبية تقف على قدم المساواة مع ثقافة النخبة.
محمد زكي ابراهيـم
في حي شعبي
التعليقات مغلقة