علوان السلمان
الخطاب الشعري هو جوهر المعرفة الانسانية، والشاعر (المنتج) صخرة الدفاع عن طبيعتها ووجودها وهو يخوض مغامراً حالماً داخل عوالم اللغة لخلق المفاجأة الصورية المستفزة لذاكرة الجمعي الآخر (المستهلك) ونبش خزينها الفكري لتحقيق هدف النص الذي هو (رؤية ما لا يرى) على حد تعبير رامبو بتوظيف وسائل تعبيرية وأسلوبية وفنية مكتنزة بمكوناتها الجمالية التي تتجسد بشكل رمزي ودلالي يقترن بالواقع ويعبر عن جوهر الأشياء بلغة إيحائية متفجّرة الدلالة المرتكزة على خصوبة المعنى.
والشاعر أديب كمال الدين الذي استأثر بالتجربة الحرفية وحوّلها إلى وهج من الضوء الشفيف أسهمت في شحن طاقاته الفكرية وتندية عالمه الصوفي الذي كشفت عنه نصوصه الشعرية المنطلقة من النقطة أصل الأشياء والمنتهية بالحرف التشكيل اللفظي والجملي:
حتّى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة
ونقاطاً أكثر
دونَ أن تعترف بسرِّها ومعناها./ ص20/ (شجرة الحروف).
وباستحضار النص الشعري (قصيدتي الأزلية) الذي يتشكل من أربعة مقاطع تنبثق من إرث صوفي وصور متخيلة تغوص في عوالم الروح والجسد التي شكّلت وحدتها الموضوعية عبر الأنا التي تنفذ بعمق في الأنا الصوفية التي تؤكد العلاقة المشتركة بين الأنا الشعري التي تهمس بالبعد المعرفي والأنا الآخر بوحدة الوجود المعبر عن حلول الروح الواعية لذاتها في الجسد الذي هو (قبّتها) على حد تعبير القديس بالاماس كونه طاقة تعبيرية موحية ونصاً مفتوحاً معبأ بمحمولات تمنحه حضوراً معرفياً بلغة تشكل صور التواصل عبر الحركات والايماءات، مع استثمار النص القرآني والفعل الذي ينطوي على بعدين متداخلين: أولهما حدثي وثانيهما زمني للتعبير عن رؤى روحية يسعى المنتج (الشاعر) إلى تحقيقها:
هكذا أُلقيتُ في الطوفان:
كانَ نوح يهيّئُ مركبه لوحَاً فَلَوحَاً
ويُدخلُ فيهِ من كلِّ زوجين اثنين.
كنتُ أصرخ:
يا رجلاً صالحاً،
يا رجلاً مُبحراً إلى الله
خذني معك.
وإذ لم يأبه نوح لصيحتي
تسلّلتُ إلى المركبِ: المعجزة.
وشاهدتُ مأثرةَ الحمامةِ والغُراب
بعدما صعدَ الموجُ بنا كالجبال،
حتّى إذا هدأت العاصفة
وقيلَ يا أرض ابلعي ماءكِ،
هبطَ الكلُّ من سفينةِ نوح
فرحين مُبَارَكين
إلّاي.
فالنص يفتتح بضمير المخاطب (خذني معك) الذي يمنحه دلالة مزدوجة بالفعل والحركة ليحقق الأنا الشاعرة ويؤطّرها في فضاء النص الذي يحمل في طياته عمق الدلالة التي تتحول من (أنا) الذاتية (المنولوجية) إلى (أنا) الموضوعية (الديالوجية) باستبدال خطابه الداخلي بالخارجي. إضافة إلى أنّ الشاعر يعتمد هرمية تنحصر في تعالق وحدات النص الدلالية لتحقيق الوحدة العضوية عبر بناء تركيبي يتشكل من نمطين من الجمل: أولهما الجمل الفعلية الكاشفة عن الجانب الحدثي في النص والفضاء الزمني الذي يؤطر مستوياته المتجسدة في الانزياح، وثانيهما الجمل الاسمية التي تعكس الجانب الاخباري.. إضافة إلى محاولة إيقاظ التاريخ بأسلوب بنائي يحتكّ بواقعه وهو يخاطب القوى الوجدانية لإثارتها.. هذا يعني أنّ الشاعر ينسج عوالمه الشعرية من فضاءات منفتحة على الزمان والمكان:
وثانيةً صرختُ بنوح:
يا رجلاً صالحاً،
يا رجلاً عادَ من طوفانه: الجلجلة.
قالَ نوح: مَن أنت؟
قلتُ: أنا الإنسان.
قالَ: مَن؟
قلتُ: أنا المؤمنُ الضّال.
قالَ: مَن؟
وتركني في المركبِ دهراً فدهراً
حتّى إذا غيّبَ الموتُ نوحاً،
تحرّكَ المركب
تحرّكَ بي وحدي
لأواجه طوفانَ عمري
في موجٍ كالجبال،
أنا الذي لا أعرفُ الملاحةَ والسباحة
وليسَ لديّ حمامة أو غُراب. ص24
فالنص ينفتح على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان الحاضن للفعل الشعري وانفعال المنتج الشاعر المتفاعل معها بوعي ولغة محكية عبر خطاب الذات ومناخاتها بايجاز واختزال جملي من خلال التحكم بالجزئيات الشيئية ووضعها تحت سلطة التخييل وتسجيل لحظته التي تتمحور اشتغالاتها على الحدث بتعابير جمالية تقوم على العبارة الموجزة المشحونة بالخيال والحركة المرئية لغرض تقديم صورة متماسكة البناء، واضحة المعالم، مؤطرة بوحدة موضوعية وحيثيات دلالية تنبثق من المفردة الرامزة باستثمار عناصر بلاغية (مجاز/ إستعارة..) فيكشف عن أفق متسع الرؤى بتخطّيه المبنى والمعنى وخلقه لحقله الدلالي المتمثل في ترجمة الأحاسيس والانفعالات الذاتية. فضلاً عن توظيف الشاعر للطاقات الحسية والفكرية ونسجها بإيجاز جملي درامي يستدعي المستهلك لاستنطاق صوره المعبرة عن لحظتها الانفعالية وألفاظه الرامزة بوصفها (أداة فكرية معبّرة عن قيم غامضة لغرض تصعيد التكنيك الشعري).. إذ فيه تسمو التجربة إلى حالة الشمول، والمشاهد فيه تتحول إلى رؤيا:
هكذا أُلقيتُ في النار:
بعدما أضرمَ النارَ أهلُ أور
لإبراهيم وألقوه فيها،
انتبهوا إليّ.
كنتُ أغرقُ في الدمعِ من أجله.
قالوا: إنّه من أتباعه فألقوه في النارِ أيضاً.
هكذا أُلقيتُ في النارِ أيضاً.
وإذ كانت النارُ على إبراهيم برداً وسلاماً
فإنّها لم تكنْ لي
سوى نار من الألمِ والحقدِ والحرمان
اشْتَعَلتْ،
ولم تزلْ تشتعل فيَّ
في كلّ يوم،
هكذا إلى يوم يُبعَثون! /ص25
فالنص يتجه صوب البناء الدرامي الذي يعبر عن لحظة انفعالية تجنح إلى الايجاز والتركيز وهي تتكىء على تحوّلات لفظية كاشفة عن صور حسية محمّلة بنداء خفي تحت تساؤل فلسفي يقترب بتقنياته من الحكائية الشعرية بتوظيف ضمير المخاطب الذي يبدأ بفعل حركي قائم على انعكاس الحالة النفسية للذات بتدفق وجداني يعبر عن لمحة فكرية تكشف عن تجربة تختزن في داخلها طاقة ايحائية مثقلة باشارات من ذاكرة ذاتية تعلن عن انتمائها إلى الحياتي-اليومي عبر لغة تتجلى في الانزياح بشقّيه السياقي والاستبدالي محققا جمالية اللفظ المفجّر للطاقة الشعرية المتجاوزة والمقترنة بالإيقاع الداخلي المنبعثة من عمق شعوري وبعد إنساني يشكّل حضوراً في دائرة الوعي:
هكذا أُلقيتُ في البئر:
ألقاني إخوتي
وعادوا إلى أبي عشاءً يبكون.
قالوا: يا أبانا قد أكلهُ الذئب.
فبكى أبي،
وكانَ شيخاً جليلاً،
حتّى اخضلّتْ لحيتُهُ بالأسى والحروف.
لكنّ السيّارة إذ وصلوا إلى البئر
ما قالوا: يا بشرى هذا غلام
بل قالوا: وا أسفاه هذا هُلام.
وتركوني في البئر
يمزّقني الظلامُ والخوفُ والانتظار. / ص26
فالشاعر يخوض مغامرة شعرية مؤثرة بإتقانه لتكوينها الداخلي والخارجي مع قدرة في توظيف النص القرآني القصصي ومعاصرته فيكشف عن قدرته في الترميز وشحن الفاظه بدلالات غير مألوفة من أجل التحليق في أفق الصورة الشعرية عبر بنية نصية تعتمد التكثيف والاختزال.. فضلاً عن توظيفه الفنون الحسية والبصرية والمكانية لخلق عالمه الشعري الذي يقوم على أساس جمالي قوامه اللمحة الفكرية التي تعلن عن حالة نفسية تعاني وحدتها واغترابها فتتأمّل وجودها القائم على المتضادات وتشكيلاتها بلغة تشكل وسيلة تبليغ وغاية في حد ذاتها والتي يعمل المنتج الشاعر على تفجير قدرتها الانزياحية كي يكشف عن وظيفتها الجمالية.. إضافة إلى استخدامه تقنيات فنية وأساليب لغوية كالاستفهام المحرّك للذاكرة كي تسهم في توسيع مديات النص بجواباتها.. وأسلوب النداء (الحركة الزمنية المتراكمة بتأثير الصور في وجدان الشاعر تراكماً كثيفاً ..). إذ فيه تتوافد الصور من القلب وتتراكم فوق بعضها والشاعر يوقظها من سباتها لينسجها بعقلانية فكرية مشوبة بالخيال.. إضافة إلى التكرار بوصفه أسلوباً دالاً على التوكيد وسمة شعرية بما تحمله من طاقات تعبيرية وإيقاعية والتي شكّلت لازمة لتقوية الصور التي هي (عقدة تتشابك فيها الدلالات الفكرية والعاطفية في لحظة من الزمن..) كما يقول ازرا باوند:
ربّما سأخرجُ من البئرِ يوم يُبعَثون
أو ربّما يوم يُقالُ للأرضِ: ابلعي ماءَكِ.
فأخرجُ من مركبِ نوح
أو من نارِ إبراهيم،
وقد أكلني الرعب
ولَفَظَني الموج
وأطفأت المأساةُ عيوني. / ص26
فالنص يكشف عن مسارالرؤيا في تجربة الشاعر أديب كمال الدين الشعرية وهي تتحرك في بعدين أحدهما يولد من الآخر.. أولهما البعد الزماني، وثانيهما البعد الفني الذي يعتمد السردية الشعرية في تشييد معمار النص ليشكل خطابا يتكىء على فضاء دلالي يخرج باللغة من فضائها العلاماتي إلى فضائها التأويلي من خلال بنية يغلب عليها الانزياح الذي منح النص قدرة انفعالية تتمركز في أحضان الواقع.
أديب كمال الدين واستئثار التجربة الحروفيّة
التعليقات مغلقة