د. حاتم الصكَر
لم أعد أذكر كيف تعرفنا إلى كاظم الحجاج . لقد جاء إلى جامعة بغداد بعدنا بعامين ، لكنه انضم سريعاً لزمرة من الأدباء و شعراء القلق المتمردين في كلية الشريعة: معد الجبوري ومحمد شمسي وصباح العاني وصلاح الحديثي وعبدالعزيز إبراهيم وصبيح الشحاذ وخليل سلامة وسامي الموصلي، ولغُواةٍ يلتمّون حولهم يتنفسون هواء طرياً بعيداً عن كتب اللغة والتفسير وطرق التعليم ومناهجه التقليدية.
الحجاج؟ تساءلت مع نفسي وأنا أنظر للشاب النحيل – الأشد نحافة مني – ولخصلة شعره الكثة المتدلية على جبينه وعينيه القلقتين المتساءلتين ..كيف هو الحجاج إذاً؟ وأين السيوف التي تتوعد الرقاب التي حان قطافها؟ ليس للفتى إذاً من اسمه أي نصيب.الحيي والخجِل كأيّ بصري مضاف إليه رهافة شاعر يهمس ولا يتحدث.لكن الأيام ستكشف لنا عن فكِهٍ نادر يسوق النكتة والملحة والخبر الطريف بقدرة سارد شديد الجاذبية.طرائفه لا تقاوم.لمّاح يحوّل المواقف إلى مادة لإشتقاق دلالة مضحكة ولكن بمسحة إنسانية، فبحسب ما يقول برغسون في كتاب( الضحك) (لايوجد مضحك إلا في ما هو إنساني). كما أن الحجّاج شأن شعراء المساخرة كما أحب أن أسميهم يلتفتون أولاً إلى دلالة المضحك الكامنة في المهمة أو الوظيفة النافعة له، وهي الوظيفة الإجتماعية.
لقد اتخذ الحجاج المساخرة وسيلة شعرية يصل من خلالها إلى هدفه الإجتماعي غالباً.فهو لا يسخر لأسباب شخصية مثلاً.ليس له عداوات ولا أعداء.مذ عرفته وعرفه شعراء وطنه، ليس من ضغينة لديه إلا مع من يسلبون الإنسان إنسانيته.
في واحدة من تداعياته الشعرية يسرد سيلاً من لقطات إنسانية تجعله حزيناً. يقول الحجاج:
أنا أرثي للأشياء جميعاً!
أرثي للكتب المهداةِ المنسيّةِ ، عمداً أو سهواً أو لهواً.. في الحاناتِ
القاموس يُلفَّق أحياناً ؛ القاموس يسمّي الصحراواتِ (بوادي)..
هل ( تبدو) صحراءٌ للعين ، لكي تدعى باديةً ؟..
لا بأسَ . القاموس يسمّي سّراق الأوطان طوائفَ ، أو قومياتٍ
ولتعميق الشخصية يلجأ الحجاج إلى ما يدعى بالخيال الهزلي المسرف ،من أجل تثبيت صورة المضحك وتكريس دلالاته. يقول في قصيدة الممثل:
السيد مخرجُنا المغرور
أعطاني دوراً
ولأني مقبولٌ من حيث الجثة .. للدور وافقت..
قال المخرجُ : احفظ دورَ «السلطان العادل
في سري أضحك: سلطانٌ .. عادل؟
وظهرتُ على المسرح … أقتلُ، أشنقُ، أمرح، وتزوجتُ جميع نساء الدولةِ
أعني كل بنات الكومبارس ..
لكن كان عَلّيَّ – أنا السلطان العادل-
أن أشنق شحاذاً ، من أجلِ رغيفٍ مسروق ،
سامحتُ الشحاذَ ، فأفسدتُ الدور! .
وذلك كله بحاجة لدراسة معمقة في ملفوظه الشعري – والنثري أحياناً- بل دراسته في سياق المساخرة الشعرية التي كرّسها الرصافي في (ياقوم لا تتكلموا /إن الكلام محرمُ) وواصلها الجواهري بفنية أرقى وصور موسعة لاذعة في (نامي جياع الشعب نامي/ حرستك آلهة الطعامِ.)وتجسدت عربيا لدى الشاعر أمل دنقل الذي للأسف باغت المحمول السياسي الشعاري جل سخراته، وأوقف تدفقها الهزلي رغم أن الواقع الذي يساخره دنقل ويسخر منه أشد هزلا ً من أية صورة متخيلة . وعراقياً يمكن أن ندرس شعراً لموفق محمد وجواد الحطاب وكزار حنتوش -إلى حدٍّ ما- في التيار الهزلي القائم على المساخرة.. والمفارقة الهزلية.
لكنَّ لشعر الحجاج وجهاً آخر نراه في غزالة الصبا ،وفي قصائده القصيرة ذات الكثافة والتركيز..حين يسبر أغوار نفسه ويقارب الحرب وصورها :
إني فتىّ كالبرتقالة شاحبٌ
والبرتقالة لا تخافْ
لكنما ..
يَصفَرُ وجهُ البرتقالةِ
كلما قرب القطاف ! .
ولا يمكن أن نفك صورة ذلكك البصري الطيب الموجوع بمفارقات الواقع عن شعر الحجاج وشخصيته.
بهذا تميز وانفرد وأنجز ما سيتركه مدوياً في الذاكرة الشعرية العراقية والعربية.
طوبى للبصري المشتعل الرأس شيباً وشعراً وحباً ،اليانع القلب والضمير والقصيدة ..صديقي الحجاج …كاظم.
وطوبى للبصرة – عش الشعراء – به …