التدوير وتداخل الأزمنة في (وجهي بصراوي من سومر)

علوان السلمان

يقول الحجاج ..
اغسل عينا بدجلة .. وعينا بالفرات
جدد عينيك دوما .. وانظر بعين من نهرين
فسّر ( لنهريك ) ما يبصران ..
عرِّ جلدك لشمس العراق .. فلا جنسية الا بالسمرة
ويقول الناقد الامريكي ( دونالد استوفر ) في كتابه ( طبيعة الشعر ) ان الكلمة الشعرية يجب ان يتوافر فيها عدة عناصر كي تكون فاعلة مؤثرة منها عنصر المحتوى العقلي وعنصر الايحاء عن طريق المخيلة والصوت الخالص مع اتصالها بالكلمات الاخرى اتصالا ايقاعيا يؤدي بالنتيجة الغاية المطلوبة…
والشاعر كاظم الحجاج في نصه الشعري(وجهي بصراوي من سومر) ..يحقق لحظته فيه كونه نص يشتغل بعمق معرفي يثير الاسئلة من ركامات الوجود بكل تناقضاته..باعتماد لغة يومية محققة لغرضها الوظيفي في نقل المعنى بعيدا عن الغموض والابهام والرمزية الفوضوية المتباعدة عن دلالاتها..فضلا عن اكتناز غرضها الجمالي وطاقتها المتوهجة بايحاءاتها وخيالاتها….
(امطار البصرةـ سبحان الله ـ كما الجدري تنقر وجه النهر..هنا في البصرة..نحن نقول:الدنيا تمطر..لا حظ كل الدنيا نعني..لكن تبتديء الامطار هنا من غيمة حزن سوداء الدمعة..اعني الاولى لا تسقط الا خجلى مثل حزين خجلان..هنا في البصرة لايبكي رجل قدام الناس..بلى..قد تبكي ام علنا..لا لوم على ام عادوا ببنيها ملفوفين باعلام الدولة او ملفوفين باعلام الاحزاب الان….)
فالشاعر بقدرته وارادته الفكرية يتحكم بالشكل الفني فكان ناثرا لنصه من اجل تشكيل بنية فنية حداثوية جامعة بين ثنائية الشكل والمضمون والتي تتجلى فيها الصورة الجدلية بين الذات والذات الجمعي الاخر..فيقدم نصا يقع تحت تاثير مؤثرات صوتية وصورية ولونية منحته صفة التحول في الرؤيا والصورة الشعرية تركيبا وبناء فنيا مع ايحاءات تفضي الى دلالات معرفية من خلال استدعاء الرمز الذي اسهم في اثراء المضمون وتوسيع مدى الدلالة التعبيرية..ابتداء من العنوان النص الموازي المتشكل من ثنائية..
الانا/الحاضر(وجهي بصراوي)
و الـ هم/ الماضي(من سومر)..
وقد جمعتهما مشتركات جمالية وتعبيرية متمثلة في كثافة الدلالة والتركيز والايجاز..فشكلا فضاء النص(العلامة السيميائية التي توحي بسعة الافق)..ومفتاحه الاجرائي في بعديه الدلالي والرمزي..
(قد تبكي اخت عادوا باخيها(عبدالمعبود)..بلا راس اوعادوا باخيها..(عبدالعباس).. الاسماء هنا في البصرة لا تعني شيئا فلدي صديق يدعى(هادي) ـ والاسم هنا بين هلالين ـ ولكن (هادي) هذا فوار مثل تنانير الارياف..(جميلة)..جارتنا اقبحح من تمساح وانا (كاظم)اعني اسمي لا اكظم شيئا حتى ضد امراتي..و(المجلس)..لا يجلس الا حين يسافر نواب الشعب..الى عمان..الى اين ذهبت؟..انا اعني:عادوا باخيها(عبدالمعبود)بلا راس..تدري في الجبهة ـ لاعادت ايام الجبهة ـ قد ينسى جندي كل الاشياء هناك بما فيها الراس..وقد كانت نائمة من هم البيت فلم يوقظها(عبدالمعبود)..مشى للجبهة سرا هذي المرة في الفجر..وكانت تمطر..اعني كل الدنيا والاخت الى الان وقد صارت في الخمسين تخرمش خديها..:يا(عبدالمعبود)لماذا لم توقظ اختك؟ للان المطر الجدري ينقر خديها والدنيا كل الدنيا تبكي..حتى النهران التقيا في راس البصرة من (شجرة ادم)كل دموع النهرين تصب هنا وانا ـ استغفر ربي من قول انا ـ اعني:اني بصراوي من (سومر)حمدا لله ووجهي من طين الزقورة والطين يداس.. بلى.. لكن من دون اهانات..حتى يتخمر بالتبن..وقد كان الاجداد يدوسون الطين مع التبن ـ كما نرقص نحن الاحفاد الان ـ فنحن البصريون اعتدنا ان نرقص فرحانين ونرقص فوق الطين ونرقص مقهورين ـ كما الافريقيون ـ ونرقص مذبوحين كما من عشر سنين..)
فالشاعر يستعير الوسائل الفنية للسرد(حدث/حبكة/شخصية/ زمكانية..)ويخضعها للغة الشعر من اجل بناء نصه ومد جسور التواصل بين المضمون المعنوي والشكل البنائي اللغوي عبر لغة يومية مكتظة بالمعاني والصور المختزلة المشحونة بطاقة تاثيرية..وهذا يعني انه يعتمد خطين فنيين متداخلين في بناء هيكلية نصه :اولهما سردي وثانيهما وصفي للذات المازومة من اجل خلق نص يمتلك خصوصيته برؤاه ومضمونه ولغته وتشكيله الايقاعي وخروجه عن المالوف واعتماد الاستعارات والرموز في بناء صوره الفنية لتحقيق نصا معرفيا ..جماليا ينتمي بجدارة الى الواقعية الجديدة..كونه نص يحتضن هدفا اجتماعيا..انتقاديا.. ومضمونا سياسيا..فضلا عن انه ينزع الى الحداثة الشعرية اذ فيه يمزج الشاعر الفكري بالوجداني عبر مقومات الاسلوب الجمالي بنزعة تفاؤلية مع تصوير البؤس الانساني الذي يشغل فراغات (البصرة) المدينة التي تحمل معنى الاستلاب والاحباط من جهة ومن جهة اخرى تحمل معاني الرقة والدفء والحب وهي تسبح في حلم الشاعر وعقله الباطني..كونه يلمس ويعايش مظاهرها ماديا ويتعامل معها..
(عيب البصريين الاصلاء الطبل يخربط مشيتنا..لا بصري اصيل يمشي(محترما)والطبل يدق..(افا)..فالبصري خفيف القلب..خفيف الرجلين..انا اعني:ارجلنا ملك للطبالين..اسأل(سعد الياس)..او فاسأل (تومان)..لماذا(تومان)؟ اليست جدتنا(رابعة العدوية)كانت راقصة..رجلاها ملك للطبالين؟ ولكن لم يقتلها احد..ما كان هناك رعاع مثل اليوم ولا تكفيريون..وما كانت رشاشات مثل اليوم..(الرشاشات) ايام (الجاحظ)يرحمه الله ويرعاه زجاجات من (جيرانستان)ترش العطر وماء الورد..وما كان الجيرانستانيون يسدون الماء عن البصرة مثل الان..انظر اين ذهبت؟..انا اعني كانت(رابعة العدوية) جدتنا راقصة..لكن لم يقتلها تواب من توابي(شارع بشار)..(هنا البصرة)..لا اعني بشار الشام ولم يقتلها(اخواني)..لا اخوان له..حتى امتد بها العمر فصارت(عذراء البصرة)..
فالشاعر يبتكر الصور عبر لغة تميل الى التعيين مع استنطاقها الذهني بنقلها الافكار بمشهدية مؤهلة بمناجاة الفن السيمي المليء بالدهشة وسعة مثول خارطة المفارقة والاثارة..بسردية تعتمد المبنى الحكائي المتكيء على مشاهد صورية الرؤية والابعاد من خلال هاجس ذاتي ولغة متميزة بمفرداتها اليومية ونسجها باسلوب شعري يقوم على ادراك حسي..ذهني وتقنية شعرية تعتمد: بنية التعبير وبنية المعنى في خلق صوره الشعرية التي تعكس معالمها في اكثر من شكل عبر مرآة النص التي يتوالد منها تعدد الرؤى والمواقف التي تعتمل في نسق البنية النصية..فضلا عن توظيف الرمز الديني من اجل اغناء النص والتعبير عن القيم الاجتماعية والروحية التي تتلائم وما درجت عليه الذاكرة الجمعية بوصفه جزء من التراث وباعث من البواعث الروحية لما يشكله من حضور في اللاوعي الجمعي الانساني…اضافة الى ذلك توظيفه تقنية التكرار الظاهرة الصوتية التي تحتضن دلالتها النفسية..كونها تعد من الانساق التعبيرية في بنية النص والتي تسهم في ارتباط اجزاء الكلام وتقوية المعنى وتوكيده..فضلا عن تاثيرها على المستويين:الصوتي والدلالي..فتكرار عبارة(الى اين ذهبت؟)التي شكلت الاطار الموجه للبنية المقطعية التي اعتمدت الانتقال عبر التساؤل في جملتها التي فرشت روحها كقافية ملازمة لمقاطع النص وامتدت على امتداده كي(تمكن النص من العودة الى لحظة البدء أي لحظة الولادة..)على حد تعبير محمد لطفي اليوسفي من جهة وتقوية الاحساس بالحالة النفسية القلقة التي يعانيها الشاعر من جهة اخرى..اضافة الى ما تحدثه من ايقاع داخلي يهدف الى التاثير وفتح الفضاء الدلالي للنص..
(اين ذهبت؟ انا اعني..لا شأن لنا بالاخوان المصريين ولا بالمصريين(الاخوان)..ونحن لدينا هذا الكم وهذا الهم من (الاخوان) النواب..انا اعني نواب الاحزاب..انا لا اعني نواب الشعب..لدينا شعب لا نواب له..حتى الكتل الكبرى ليست من طين حري..ليست من طين الزقورات الممزوج مع التبن..لدينا تبن لا غير..الى اين ذهبت؟..الى اين ذهبت؟..)..
وبذلك قدم الشاعر نصا متجاوزا للشكلية ..سابحا في عوالم النص المدور بلغة سردية تناسبه..كونه تجديد في الشكل الفني المستوعب للنص بالفاظه وجمله وتشكلاته المعتمدة على المقطعية المتداخلة والمتتابعة بحركة متدفقة تسير بخطين متداخلين: اولهما عمودي يتجه صوب الماضي وثانيهما افقي يدخل ضمن المعاصرة التي تشير باتجاه الحياة الانسانية وصراعاتها..مع انفتاح على عوالم نصية بلغة تقترب من لغة التاريخ مع تماهي الحس الميثولوجي والديني على امتداد النمو الجسدي للنص حتى صارت تلك الدلالات النسغ الذي يحركه بتماهيها وصوره المتخيلة وهذا ما عزز من نمو الخطاب النصي والكشف عن بؤره الزمانية والمكانية المحركة له..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة