يوسف عبود جويعد
تشير التحليلات النقدية , أن هناك موجة من الكتابات , وأقصد في ذلك الاجناس الادبية , الرواية , القصة , الشعر , سوف تظهر ,بعد أن تضع الحرب اوزارها , وبعد أن يمر عليها حين من الدهر , وهذه الكتابات , ليست المسكوت عنها فقط , بل أنها كتابات ناضجة ,تتناول ثيمة الحرب محوراً رئيساً لها , لكن في احداثها تكمن غرابة الطرح , رواية ( حدود الحلم ) للروائي ناظم جليل الموسوي ,تعد من تلك الروايات التي تتناول ثيمة الحرب كمادة اساسية في سير العملية السردية داخل المبنى السردي , فقد استطاع الروائي أن يستحضر الادوات السردية لفن صناعة الرواية بشكل ظاهر , وجعلها تتقدم موازية لحركة احداث الرواية , حيث الزمان منذ حرب الثماني سنوات مع الجارة إيران وحتى سقوط الطاغية , المكان قرية (طبن) في الديوانية , والساتر الموازي لجبهة القتال , وبغداد ,الاحداث هي امتداد لحياة الشخصية خلال تلك الحقبة , والشخصية والتي سوف اقف عليها لكشف كناها , فقد رسم ملامح شخصية واضحة , مسلحة بالعلم والمعرفة , رافضة للحرب , محبة للسلام , لكن الانكسار النفسي الذي أحاق ببطل الرواية والشخصية الاساسية التي نسجت الاحداث , لكن السارد العليم الذي يدير الاحداث , واوكلت اليه مهمة تقديمها للمتلقي بلغة سردية مختزلة سلسة تنسج لنا بانسيابية عالية الحبكة الفنية لحركة السرد والبناء الفني لمسار الاحداث.
كانت مهمة السارد رصد هذه الشخصية ومتابعتها ونقل المبنى السردي من خلالها , ومتابعتها خطوة بخطوة , كون ان بطل الرواية يصاب بصدمة عاطفية شديدة جداً , بعد ان كان على علاقة رومانسية حالمة شديدة التعلق مع معشوقته سعاد, التي تركته فجأة للتزوج , وهو الذي كان في القرية يطلقون عليه مجنون سعادة , هذا الاحباط الكبير صار سبباً رئيساً في الاحساس بالاكتئاب الشديد , وبسببه قررأن يظل على الساتر , ويترك القرية والعائلة , وعشيقته , ليعيش حزيناً بائساً , فوق الساتر لفترة امتدت لاربعة اشهر , ليس حباً بالحرب , او حمل السلاح ,لانه لم يطلق رصاصة واحدة , ولكنها كانت حالة يأس كبير وصل فيه حد الجنون للتخلص من حياته , هذه البذرة الاولى , والعتبة النصية الرئيسة للثيمة , هي أساس انطلاق الاحداث , حيث أن المتلقي سوف يؤازر بطل الرواية ويتعاطف معه ,لأنه سوف ينتظر حدوث أمر ما , فهل هو نحو الاسوأ ؟, ام نحو الاحسن, وفي هذا تكمن متعة المتابعة , وضخ الاحداث التي سوف نكتشف انها تحمل معها من مفاجآت ما يصب في فائدة المبنى السردي , فنشعر بأهميتها ,وعدم تركها , فهذه الشخصية المحورية , واقصد فيها بطل الرواية , سوف تجرنا لاحداث ,لم نكن نتوقعها , او حتى تخطر ببالنا , الامر الذي خدم مسار النص , وشدها وتغلغل في تماسكها , اذ ان على الروائي أن يكون صبوراً في ضخ الاحداث , وان لايزجها دفعة واحدة فتفقد قدرتها على الاستمرار , وتكون ذات نفس قصير , ومكشوفة من الوهلة الأولى.
نستطيع القول عنها , انها رواية شخصية , كوننا ننتقل مع بطل الشخصية في حله وترحاله , نرصد حركاته , ونتابع بشغف , ما يحدث له , وهذا التوقع صحيح ,فعند زيارة قائد الفرقة للساتر , يقدم عبد الجبار نفسه للقائد
( – الجندي المكلف عبد الجبار حسن سالم , الفوج الاول لواء المشاة 429
ويؤدي التحية بحماسة منقطعة النظير .
– هل تمتعت بإجازة عن قريب ؟
– كلا سيدي .
– منذ متى .
– منذ اربعة أشهر تقريباًَ
– ماذا تقول حدثني بصراحة ؟)ص 35
هذا الجزء اليسير المستقطع من متن النص , والذي يشكل حالة تغير كبيرة في حياة بطل الرواية, كونها خطوة مدروسة مسبقاً من اجل تهيئة المتلقي لنقلة ثانية اكثر إيغالاً لبؤرة الاحداث , والتي شاء الروائي ان ندخل من خلالها الى صميم النص , من دون معرفة مسبقة لما سوف يحدث بعدها , فمرور القائد وزيارته للساتر حالة جديدة لهذه الانتقالة , وفيها تكون مهمة المتلقي الالتصاق بتلك الشخصية , ومتابعتها بكل اهتمام , وحدثت المفاجأة التي هي الثيمة التي تحدثت عنها في بداية هذا التحليل , كوننا سوف نتفاجأ بدخول مركبة فارهة من تلك التي خصصت للضباط الكبار , تصل الساتر , وتأخذ الجندي عبد الجبار , ليركب معهم , من دون ان يعلم الى أين , وهو أمر مشوق جداً , بما أننا نتابع الشخصية الرئيسة , وان عبد الجبار لا يعلم الى أين تأخذه هذه المركبة التي في داخلها ضباط برتب عالية , ومع تداعيات البطل , وخوفه من المصير المجهول , حيث قاده تفكيره الى افكار سود , بأنهم اقتادوه ليعدموه , وان المشنقة جاهزة له , ويزداد هذا الاحساس الذي يجتاحنا , اذ إننا نعيش حياة البطل , وبعد أن يدخل قصراً كبيراً جداً اعد للرؤساء والملوك , يكبر إحساسه بتلك النهاية, وسبب ذلك يعود الى الاهتمام المبالغ فيه , حيث انهم قدموا له طعاماً وشراباً لايحلم حتى برؤيته , الا مر الذي جعله يحس أن الذي سوف يعدمونه يقدمون له كل ما يشتهي , بعدها طلبوا منه ان يذهب الى الحمام ليغتسل في حمام حتى لا يعرف كيف يستعمل , ثم يحضرون له ملابس جديدة , ويطلبون منه ايضاً ان يعقم يديه بسائل التعقيم , ليزج في قاعة فيها جمع غفير من الضباط ينتظرون بصمت رهيب , وفجأة يظهر صدام حسين ليقلد عبد الجبار نوطي شجاعة , مع رتبة ملازم اول , وهنا تكمن المفارقة , التي اعدها الروائي , والتي لا يمكن ان يذكرها في ذلك الوقت , كون عبد الجبار , يكره الحرب , ولم يطلق رصاصة واحدة , وليس هو شجاعاً مقداماً , كما توقع هذا الرئيس ومنحه هذه الرتبة , فقد ظل بالساتر اربعة اشهر بسبب احباط نفسي , وحالة كئابة المت به, وبطل الرواية يعترف علناً بأنه لم يكن شجاعاً , ولم يواجه خصمه في سوح القتال , وهكذا نجد تلك النقلة الموفقة قد أسهمت بزجنا وسط هذا النص , وايضاً سوف ننتظر معاً , دورة ثانية للحركة السردية , والتي فاقت في احداثها , ما مر علينا ضمن سياق متن النص , وقد استغل الروائي , المعرفة والخبرة والشهادة العالية لبطل الرواية , ليوظفها ضمن مبنى النص , كون تلك المعارف التي تحلى بها بطل الشخصية , كانت سبباً آخر لنقلة ثالثة مهمة داخل سير الاحداث , فقد اهتم في بناء الشخصية , ليجعل ذلك حالة من الحالات التي تسهم في دورة الاحداث.
نلاحظ ان عبد الجبار , بعد ان تدرج في الخدمة العسكرية الى رتبة نقيب , تضع الحرب اوزارها ,تنتهي مهمته في الجيش ,ليتحول الى التدريس في القرية , وهناك يواجه شخصية متسلطة على القرية , شخصية من الحزب المباد , كان مسيطراً على القرية , فيوجه له لكمة تطيح بكل اسنانه, انا لست بصدد نقل احداث الرواية , وانما اريد ان اوضح للمتلقي عملية بناء الشخصية داخل النص , فيضطر للهرب الى بغداد , ليعمل حمّالاً في الشورجة , ومن هنا تبدأ مهمة استغلال الروائي للثقافة والمعرفة والخبرة التي يتحلى بها بطل النص , كون عبد الجبار يستفيد منها في حياته داخل بغداد , فتكون سبباً في تعلق صاحب العمل فيه ,نقله الى بيته , ليديم حديقته , ثم انتقالة اخرى الى بستان كبير , وشراء ماشية وانتاج الحليب واللبن , وشي السمك ,وغيرها من الامور التي كان يعرفها بطل الرواية , وهي سبب في حب الناس , وكذلك جنيه لاموال كثيرة , وتجدر الاشارة هنا الى أن الادوات السردية في فن صناعة الرواية مسخرة مطواعة تحت امرة الروائي واذا ما اجاد استعمالها , وجعلها تنمو مع حركة السرد , فأنه في ذلك حقق الحرفية العالية في هذا الفن , ونمو شخصية البطل داخل متن النص ,شأنها شأن بقية الادوات , لكنه جعلها المحور الرئيس لادارة دفة الاحداث, كما نجد الثيمة تنمو ايضاً وتتصاعد وتتضح , لنكتشف أن الانسان بالمعرفة والثقافة والعلم , والامانة الصدق والاخلاص في عمله , يكون محط حب واحترام الجميع , وهكذا فقد تحققت الغاية , كون عبد الجبار صار عنصراً مهماً ضمن الاسرة التي تمتلك هذا البستان , ولكن اغتيال رب الاسرة , الذي يتضح فيما بعد برتبة لواء في المخابرات , ولا يعلم في امره احد, وتتصاعد الاحداث وتتواتر لتنطلق نحو الذروة , حيث يتهم عبد الجبار باغتياله , فيتعرض للاعتقال والتعذيب , بعدها يظهر انه بريء , وبما أنه واثق من انه صادق وامين ومخلص , فقد كانت تلك الحادثة سبباً آ خر في انكسار نفسي جديد , يضاف الى حالات الاحباط التي حدثت ضمن مسار السرد , لذا فأنه يهرب من البستان ثانية , ليجر عربة حمل داخل الشورجة , لكن التأثير الكبير الذي تركه في نفس ثرية زوجة لواء المخابرات , جعلتها تبحث عنه حتى تجده , ليعيشا قصة حب صادقة نقية , ويعود الى قريته معها , ويلتقي اخيراً بسعادة التي انتهت نهاية مأساوية حزينة , ويذكرها بما فعلت به , ويقررالزواج من ثريا , بعد حدوث التغير وسقوط الصنم وعودته الى قريته . ( اسكتها وجاء دورها لتصمت ولا ادري هل اصبحت المواجهة تبادل ادوار الصمت لقد اطبقت اسنانها منكسة رأسها للارض , إنفجر كالبركان وهذه المرة كان يعي ما يقول , يوبخها كأنها لم تسمعه , يتجه لثريا يمسكها من يدها ويأتي بها كي ترى وتسمع وهو يوخز سعاد بإصبعه بقوة , يرتجز بين إمرأتين واحدة هجرته والثانية عشقته ومازالت تجدد له الولاء : سيدتي ثريا , هذه المرأة بالأمس كانت تملأ الدنيا غروراً , عندها ملأت الأرض جنوناً قذفتني هجراً فرماني الاطفال بالحجارة كي يؤججوا انفعالات جنوني , مضت لأحضان رجل مخادع لأمضي كدمية صماء في عدمها , عبد الجبار صار مثل العلامة الفارقة في قريتنا , كنت أرتجي منها ابتسامة ولو جوفاء تخالط أشواقي لتعلو مناجاتي فعظم جنوني!!) ص 118