(1 ـ 2)
ديفيد بولوك
قطعَت البحوث الاستقصائية في الشرق الأوسط شوطًا طويلاً. لكن، لا تزال تواجه الكثير من التحديات الفعلية. أنا أجري استطلاعات رأي في الشرق الأوسط منذ عام 1985، للحكومة الأمريكية وكباحث مستقل. وفي هذا الصدد، أثار مقال نشره مؤخرًا جاستين جينغلر بعض القضايا الهامة، ولكنه أيضًا قدّم افتراضات غير مبررة حول استطلاعات الرأي التي أجريتها مؤخرًا. وتجدر الإشارة إلى أنّ النقاط التي نتفق عليها والتي نختلف عليها بشأن أفضل الممارسات الواقعية حول أبحاث استطلاع الرأي العربي هي مثيرة للاهتمام.
قبل بضع سنوات، عانت استطلاعات الرأي العربية من ندرة الإحصاءات السكانية الموثوقة، وخرائط الأحياء وغيرها من الأدوات القياسية لبحوث الاستطلاع. أمّا اليوم، فبات الوضع أكثر يسرًا ومعظم هذه المشاكل التقنية لم تعُد عائقًا. ولكن، استمرت المحرمات الاجتماعية والسياسية في الكثير من تلك المجتمعات، بما فيها مسائل المساواة بين الجنسين، وصعوبة الوصول إلى الأسر، والمخاوف بشأن الرقابة الحكومية. ناهيك عن الضوابط الحكومية الصارمة التي تجعل إجراء الاستطلاع على النمط الغربي أمرًا صعبًا.
تتخذ الشفافية أشكالاً متعددة
تتبنى النشرة الإعلامية «مونكي كايج» و»واشنطن بوست» معايير أكاديمية تستحق الثناء حول الشفافية وتبادل البيانات، والتي «تتطلب الكشف عن التفاصيل المنهجية القياسية عند عرض استطلاعات الرأي».
إنني أدعم وأؤيد هذه المعايير تأييدًا تامًا. في الواقع، في دراستي «الشارع العربي: الرأي العام في العالم العربي» و «استطلاعات الرأي المخادعة: استخدامات وإساءة استخدام أبحاث الاستطلاع في الدول العربية»، تحديّت زملائي في مجال استطلاعات الرأي على وجه التحديد بناء على هذه الأسس، لأن الدراسات الاستقصائية المتداولة على نطاق واسع قد فشلت في تلبية المعايير المنهجية. وفي هذا الصدد، لاحظت مشاكل تتجاوز المسائل التقنية النموذجية، مثل الاستخدام الواسع النطاق للأسئلة المشحونة مثل: «ما الذي يثير إعجابك أكثر بالقاعدة؟» أو «ما مدى أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة إليك؟»
وفي حين أنني لم أدرج تفاصيل منهجية شاملة عند نشر تقريري الموجز «تنبيه السياسات» عن النتائج الرئيسية لاستطلاع قطر، إلاّ أنني أعلنت عن رغبتي في مشاركة هذه البيانات خلال الإصدار الرسمي لهذه النتائج. وفي مناسبة الاطلاق العام الذي جرى في 24 تشرين الأول/أكتوبر، أي قبل ثلاثة أيام من زعم جينغلر أن هذا الاستطلاع «غير علمي» و»مسلّح»، أكّدت بوضوح استعدادي لتقديم تفاصيل منهجية وتفاصيل أخرى كاملة، بما فيها جميع ملفات البيانات، لأي طرف يهمّه الأمر. وقد استجاب الكثير من الباحثين والصحفيين بشكل إيجابي، وأنا أشجع الآخرين على الاستفادة من هذه الدعوة.
ميزة شركات الاستطلاعات التجارية
ومن هذا المنطلق، اسمحوا لي أن أقدم بعض التفاصيل المنهجية. إنّ الفِرق التي أجرت هذه الدراسات الاستقصائية هي بالدرجة الأولى ذات توجّه تجاري وتقترن بالقطاع الخاص ولا ترتبط رسميًا أو بشكل شبه رسمي مع حكومات البلدان المضيفة. لقد عملت مع هذه الفرق على استطلاعات عربية مماثلة منذ عام 1990. وهي مرخصة ومعتمدة لدى أكبر الرابطات المهنية، مثل «إسومار». كما وأجرت بنجاح دراسات استقصائية أخرى لمؤسسات دولية رائدة مثل «بيو» والبنك الدولي والحكومة الأمريكية.
إنني أفضّل شخصيًا منظمي استطلاعات الرأي مثل هؤلاء المستقلين غير الرسميين وغير السياسيين. وهذه هي أفضل وسيلة لتجنب الرقابة، والرقابة الذاتية، فضلاً عن الترهيب والتحيز. وفي معظم الحالات، لا يزال من المستحيل على منظمات الاستطلاع المنتسبة إلى الحكومة أو التي تخضع للإشراف الرسمي في هذه البلدان أن تطرح المسائل السياسية المثيرة للجدل وفي الوقت المناسب، مثل المواقف تجاه «الإخوان المسلمين» والصراعات الطائفية أو غيرها من البلدان العربية.
وبالمقابل، يمكن لشركات الاستطلاعات التجارية أن تطرح مثل هذه الأسئلة لأن الحكومة (أو المنظمة التابعة للحكومة) لا تساعد على بناء أو مراقبة أداة الاستطلاع. فلا يتجنب الناشط في العمل الميداني الأسئلة الصعبة ولا يسعى لأي أهداف سياسية معينة. وعلى نفس القدر من الأهمية، أظهرت تجربتي أن المستطلَعين يشعرون بالراحة نسبيًا في الإجابة بصراحة على ما هو منتج استهلاكي غير رسمي في الدرجة الأولى أو غيرها من الاستطلاعات التجارية، مع عدد ضئيل من المسائل السياسية أو الاجتماعية المرفقة.
أخذ العينات والترجيح
استخدمت كل هذه الدراسات الاستقصائية طريقة معيارية في أخذ عينات احتمالية جغرافية متعددة المراحل، مع تخصيص وحدات معاينة أولية وكتل/أسر متناسبة مع حجم السكان، استنادًا إلى آخر الإحصاءات المتاحة. وقد أجرى موظفون محليون مدربون المقابلات باللغة العربية في منازل المستطلَعين الخاصة.
وقد جرى تحديد نقاط البداية ومسارات المقابلات من خلال اتباع نهج «الاتجاه نحو اليمين» و»كل أسرة في الجهة الشمالية». وفي ما يخص الأحياء المؤلفة من العمارات السكنية، تم احتساب الفاصل عموديًا حسب الطوابق، مع إجراء مقابلتين كحد أقصى في كل مبنى. وداخل كل أسرة، اختير عشوائيًا طرف مجيب واحد باستخدام شبكة «كيش». وفي حال عدم توفّر الطرف يتم إجراء ثلاث محاولات لإعادة الاتصال به في أوقات وأيام مختلفة من الأسبوع. كما ولم يسمح بأي بديل داخل الأسرة الواحدة. أمّا بالنسبة لقطر، فقد كان هناك 24 شخصًا قائمين على إجراء المقابلات وستة مشرفين ميدانيين. وقد أجروا ألف مقابلة على مدى 23 يومًا، لكن ليس أثناء العطل.
أمّا مسألة ترجيح النتائج فهي معقّدة. أنا أقدّم دائمًا النتائج الأولية، وليس فقط المرجحة إحصائيًا أو «المعدلة». وبحسب جينغلر، من المتوقع أن تكون الخصائص الديموغرافية للعينات الأولية مغايرة نوعًا ما عن الحقيقة، وينبغي الإشارة إلى الفوارق الكبيرة. ولكن لا يوجد دليل على أن هذه الفوارق أثّرت على استنتاجاتي بشكلٍ جوهري.