المسرح العراقي بين السياسة والمجتمع والعقل الإبداعي

د.عواطف نعيم
نائب نقيب الفنانين
لم يكن المسرح العراقي بتأريخه الطويل الا مسرحاً مناضلا نشأ ونمى في أحضان الحركة الوطنية العراقية لذا كان وما زال قريبا من هموم الناس وتطلعاتهم والمعبر عما في ضمائرهم، والذين أسسوا ورسّخوا حركة المسرح العراقي من جيل الرواد ولاسيما المتنورون منهم والذين أكملوا دراستهم الأكاديمية في الدول الأوروبية هؤلاء أيضا كانوا عقولا إبداعية مجتهدة منفتحة على ثقافة الاخر المختلف وملامسة لواقع الناس المعاش ممن يشكلون المجتمع الذي تنتمي اليه وتتوجه برسالتها الفكرية والفنية نحوه ، فما كانوا سوى رسل حضارة وفكر مغير لما فيه رقي الانسان وتوعيته ، هؤلاء اقتربوا في إختيار عروضهم وفي إنتاجها سواء تلك التي عرفوها والتي أعدوها والتي قدموها كما هي كعروض مسرح عالمي ، حاجة الناس وأسئلتهم وأحلامهم في الحياة الحرة الكريمة ، وحتى الكتاب العراقيون الذين كتبوا النص المحلي العراقي ذاك الذي يستنبط مادته من التراث الشعبي او الميثولوجيا أو القصص والحكايات الشعبية أو النص التأريخي ما كان إشتغالهم الا على لعبة الحياة والسياسة في الجزء الاكبر منها في مجتمع ينوء تحت ثقل تراكمات من المحن والمعاناة فما كان العراق عبر تأريخه السياسي الا ساحة للثورة والحروب لاسيما بعد سقوط الملكية حتى يومنا هذا والسياسة هي زاد العراقي في كل يومه شاء أم أبى ، لذا كان المسرح العراقي إبنا لهذه البيئة المحتدمة فلم تكن العروض حتى الكوميدية منها الا وسيلة من وسائل النقد والاحتجاج على الوضع السائد.
عبر تأريخه الحافل بالانجازات والارهاصات كان المسرح العراقي إبناً باراً للبيئة التي تمثلها في كل عروضه المسرحية التي تناوب على تقديمها فنانون من أجيال مختلفة وتطلعات وثقافات متنوعة وأفكار تتقاطع بعضها مع البعض الآخر في أحيان كثيرة ، ولعل لوجود الفرق الاهلية المختلفة في تأريخ المشهد المسرحي العراقي دور كبير للترويج لفن المسرح وترسيخ وجوده بين المتلقين ، إذ لعبت هذه الفرق ولعل أبرزها: فرقة المسرح الفني الحديث ،وفرقة مسرح اليوم ،وفرقة المسرح الشعبي، و١٤ تموز ،وفرقة مسرح إتحاد الفنانين ،وفرقة مسرح الطليعة وغيرها لعبت دوراً كبيرا في تأسيس وتفعيل الحراك المسرحي في العراق و كانت من الركائز المهمة التي بلورت حركة مسرحية تلامس هموم الناس وتعبر عن ما في وجدانهم وتعكس معاناتهم إضافة الى أنها رسمت البسمة والمتعةً على وجوههم ، هذه الفرق وبنحو متفاوت إستطاعت أن تغذي الشعور الوطني وتنمي الجانب الاخلاقي في الحياة الاجتماعية العراقية من خلال ما تقدمه من عروض مسرحية تفاوتت في مستواها وإختلفت في تأثيرها ومضامينها وطريقة اشتغالها إلا أنها كانت فاعلة وجاذبة ، وكان ظهور الفرقة القومية للتمثيل هو الاخر له دوره المهم في خلق حالة التنافس والتجاذب بين الفرق وتنويع المنهاج المعتمد لها في تقديم العروض المسرحية في المواسم المتعددة للفرق الاهلية ، ولعل ما ميز تلك الفرق العاملة على الساحة الفنية أنها قدمت نماذج متميزة من الممثلين والمخرجين والتقنيين الذين ومن خلال جهودهم تواصلت تلك الفرق المسرحية الاهلية في عطائها وتفاعلها ، وبالمقابل إستطاعت الفرقة القومية للتمثيل أن تستقطب العديد من الفنانين المؤثرين من تلك الفرق اليها أما لتعيينهم على ملاكها الدائم كموظفين او الارتباط معهم بعقود متوالية ومستمرة ولم يكن الامر قاصرا على فناني بغداد بل إستقطبت عدداً مهما من فناني المحافظات، تلك الفرق الاهلية مع الفرقة القومية للتمثيل خلقت مواسم مسرحية عراقية بإمتياز أسست بدورها لحركة مسرحية مهمة ليس تأثيرها في العراق فحسب بل في الوطن العربي، وحين بدأ التخطيط لإقامة أول مهرجان عربي للمسرح في العراق فتحت بذلك الحركة المسرحية العراقية أبوابها مشرعة للتنافس الإبداعي مع مسارح الوطن العربي لاسيما في مصر وسوريا وتونس والمغرب إذ أطل المسرح العراقي بقوة وحضور جريء لينافس المسارح العربية المقبلة الى العراق أو تلك التي يذهب اليها المسرح العراقي حاملا إنجاز مبدعيه وتحدياتهم الفنية في الرؤى والأفكار وآلية الاشتغال، بقي المسرح العراقي تحت كل الظروف السياسية والدينية والاقتصادية فاعلا وحاضرا من خلال إبداع وإصرار فنانيه و محبيه على التواصل والعمل في تقديم عروض مسرحية فيها الجديد والمبتكر وفيها التقليدي وفيها الكلاسيكي، جامعا كل الألوان ومعبراً عن كل الاّراء والأفكار التي تمّور في الشارع العراقي في كل ظروفه المتغيرة والمتحركة القاسية أحيانا والمتفاعلة في أحيان أخر، هو تاريخ فيه المبدعون العراقيون يكملون مسيرة بعضهم ويرسخون بناء الظاهرة المسرحية ويكرسونها في الحياة الاجتماعية العراقية بوصفهم حضارة وطن وذاكرة شعب..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة