الوقائع التي أتت بـ أزهار الشَّر..

قيس مجيد المولى

عمل بودلير على مسمى صياغة العناصر، أي تجميع الواقع وأرساله لخزائنه ليحيل هذا الواقع إلى صور وإشارات فيتمثلها الخيال مكانا آخر وقيمة أخرى غير قيمتها النسبية للحصول على بنية متوازنة وللحصول على النقيض من الأوجه المألوفة للوجوه الأكثر خفاء وتعقيدا ،وهو مسعى رمى إليه بودلير للتعبير عن الطموحات العميقة وتكثيف حركة الروح والإنبعاث من المواقف الضرورية للإلتزام بالبعد الآخر لمفهوم الوضع الإنساني وكيفية التعامل معه شعريا بمصاحبة مظاهر الرفض العديدة ومنها التمرد ضد القواعد وطغيان الشكل وتحجر المحتوى وتحرير اللغة والإيقاع الموسيقي للجملة الشعرية ، ونجد أن كل الرؤى والتماثلات وما أراد الخروج به لعالم الشعر الجديد نجده في (أزهار الشر ) ،
ففي مجلة لير الفرنسية أوردت برونسك مقالا تفصيليا تشير فيه إلى غزارة أفكاره وأزدراءه لكل شيء في العالم بما في ذلك ازدراءه لنفسه موعزة ذلك إلى مامرت به حياته العائلية وتأثير فقدانه لوالده ولوالدته التي تركته بعد وفاة والده ، وعاش فيما بعد حياة الترحال والعوز والفاقة مُطاردا من قبل دائنيه ، ولعل قوله حين أبحرت السفينة به الى الهند يفسر الكثير من خوالجه وأفكاره وأستعداده لمواجهة العالم (أنني منفيً على الأرض وسط الهزء والسخرية ، تمنعني أجنحتي القوية من الإرتفاع بل حتى عن السير ..) .
وجد بودلير أنه يحتاج لمسمى السكينة والنظام والإنسجام وربط الدوامات الذهنية بعضها مع الآخر ومعالجة الإنتظام الإيقاعي وكسر ذلك النظام وخلق إيقاع جديد ينسجم مع لغته النثرية ، أي أنه أستقر على أن تكون للشعر حريته الكاملة ، ولكن وفي تلك الفترة إن البحث عن حرية الشعر تعني البحث عن المخاطر وهي مخاطر تتصل بذاتية بودلير نفسه فيما يتعلق بالصعوبات المادية والثقافية التي كان هو عليها رغم ذلك فأن هناك محاولات قد تزامنت مع تلك الفترة التي كان يفكر بها للتغيير وهي المحاولات التي سبق وقام بها هوجو وسانت بوف لتقريب الشعر من شكل حداثوي جديد وكانت أتجاهاتها البحث عن شكل أقل صرامة يمتلك ميزاته المبسطة والطبيعية ، لكن بودلير كان يفكر في بعد آخر بدءا من الشكل الى المضمون وما يحتويه هذا المضمون من مقاطع ولازمات وتماثلات ونغمات وكل المؤثرات الشعرية الأخرى التي عمل عليها سابقوه ،
ففي العام 1855 نشر بودلير في مجلة العالمين الفرنسية نشر 18 قصيدة وأختار لها (أزهار الشر )عنوانا وكانت ذات مرأى غيبي واجتماعي ، فسرت أوانها بأنها إساءات للأخلاق الفاضلة ولعله كان يتابع تطور الوعي الذي أحدثه في ذاته وما يتوجب عليه من التعامل مع عناصره التي يلقيها الواقع أمامه وكيف نقل هذا العالم إلى عالم شعري صنع منه أبداعه الخاص فقد وصل بودلير في (سأم باريس) الى مسماه (الإنسجام العام) الذي دمر بموجبه المعمارية القديمة للشكل والأسلوب بتخطيه للخصائص النفعية في اللغة وتخطي بريق الموسيقى والزخارف اللفظية ،وقد وجد المعنيين في مجال النقد آنذاك أن ما نظر له بودلير هو عينه فيما كتب وخاصة في مرحلة إلهامه الباريسية فقد نشرت له مجلة فانتازيست نشرت له العام 1961 نشرت (العامة – الأرامل –المهرج العجوز ) ثم أعقبها بقصائد أخرى نشرتها مجلة لابريس نشرت منها أربعة عشر قصيدة وهو ما يؤشر حجم الإنتاج الإبداعي لبودلير في تلك المرحلة وهو في أوج أستكمال متطلبات صراعه مع العالم الخارجي ليدخل الشعر في صلب موضوعاته الخطيرة ،
أعاد بودلير في العام ذاته أي العام 1861 أعاد طباعة أزهار الشعر وواكب على الاستمرار في نشر العديد من نثرياته مع ما يتحقق في ذاته ويردده دائما بأن العمل الفني لايمكن أن يوجد دون قدر من التعقيد أو قدرة خارقة على التركيب مع الإشتغال المعماري السليم ضمن الفنية البالغة الخصوصية التي من خلالها تحقق الكلمة معجزة حقيقية ،
قبل ذلك وفي العام 1858 أصيب بودلير بالزهري وأقبل على تناول الأفيون والأتير، ونشر خلال فترة مرضه تلك نشر (الفردوس المُصَّنع )وأتجه بعد العام 1861 الى نمط جديد من نثرياته أسماها (الشعر التسكعي ) وقدم من خلالها مرارة تجربته الحياتية والتي رأى بأنها تمثل تجارب لأناس أخرين عبر العالم وكان يريد أن يطابق مابقي من إيحاءاته الشهوانية مع خاتمته القريبة بعد أن أقام زمنا في بلجيكا وأستلبه الموت هناك في 31 /أب /1867 وبقي تراثه في كل حين يدرس دراسات معمقة بأعتباره المحرك الثر لحركة الحداثة الشعرية ،
q.poem@yahoo.com

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة