جرجيس كوليزادة
بدأت بوادر أزمات معيشية وحياتية حادة تظهر في اقليم كردستان نتيجة الدعوة اللاعقلانية للسيد مسعود البارزاني في اختيار الوقت غير المناسب لاجراء استفتاء عن استقلال اقليم كردستان، وبدأت حياة المواطنين تتجه نحو التعقيد والمجهول يوما بعد يوم، كل ذلك بسبب مغامرة طائشة يعتزم رئيس بلا شرعية وبلا موافقة نيابية القيام بها على حساب الشعب، لغرض استثمارها واستغلالها لاغراض ونوايا شخصية وحزبية، ومنها الاطالة ببقاء كرسي السلطنة وحكم العائلة والحزب الحاكم، وما يطرح من مقترحات لإجبار البارزاني على التراجع ومنها تسليم رئاسة العراق اليه لولايتين متتاليتين دليل على ان الاستفتاء مجرد لعبة سياسية يلعب بها شخص وحزب حاكم قي الاقليم والغرض منها مكاسب ومصالح ذاتية وليس تحقيق برنامج وطني استراتيجي لصالح شعب الاقليم.
وهذه الحال تأتي بعد غرق كردستان العراق منذ سنوات بمجموعة من الازمات الاقتصادية والمالية والسياسية من قبل السلطة الحاكمة، وبعد عجز المواطنين من التأثير على نظام الحكم المتسلط بالطرق المدنية والوسائل السلمية، وهذا ما دفع بالواقع المعيشي والحياتي والاجتماعي والسياسي ان يسير من سيء الى أسوء، والطامة الكبرى ان الحزب الحاكم مستمر بفرض القمع والاستبداد والتسلط امام الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني لمنع الاحتجاجات المدنية السلمية، والتصعيد القمعي متواصل وله امتدادات اقليمية بدفع من نظام الحكم التركي لخدمة نوايا واهداف متعلقة بالحزب الحاكم في تركيا وبالرئيس المتسلط في أنقرة.
والكل يعلم ان التاريخ سجل صفحات سود عديدة من الجاهلية البعيدة عن الاخلاق والتقاليد والاعراف الانسانية لقبائل وأقوام عاشت في عصور وعهود قديمة، ومنها جاهلية العرب في شبه الجزيرة العربية في عقود ما قبل الاسلام، حيث اتسمت الجاهلية بصفات اهانت وقتلت كرامة الانسان، وكانت لها الدور في ظهور دين الاسلام ودعوة النبي محمد (ص) للقضاء على الممارسات الجاهلية التي كانت سائدة في تلك الفترة من خلال نبذ تلك التقاليد والعبادات الصنمية، وذلك لارساء طريق جديد مؤمن بالايمان والاله الواحد والحق والعدل والاخلاق والمفاهيم والقيم الانسانية النبيلة والمؤمنة بالسلام وتعايش الشعوب والاديان.
ولا ينكر ان دين الاسلام حمل معه تغييرا جذريا في مجمل الممارسات والتقاليد والاعراف والافكار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت سائدة قبل ظهوره، وحولها الى سلوكيات جديدة انتقلت من مجتمعات صغيرة في مكة والمدينة الى مجتمعات كبيرة للبشرية امتدت من اندونيسيا الى المغرب ومن قوقاز الى ادغال افريقيا، ومن هذه المجتمعات الامة الكردية في تركيا والعراق وايران وسوريا.
وما يهمنا في هذا الامر هو المجتمع الكردي العراقي الذي ارسى لنفسه طريقا وسطيا ونهجا مسالما ومعتدلا في الدين وقدم نموذجا مثاليا للتعايس والتسامح والتنوع والتعددية بين قوميات ومذاهب متعددة تقطن ارض اقليم كردستان منذ القدم والى يومنا هذا، والعهود الاخيرة التي شهدت انتشار حركات ومنظمات متشددة ومتطرفة وارهابية في منطقة الشرق الاوسط لم تدقع بالبوصلة الكردية بالتمايل الى اي تطرف او تشدد في حين مالت لها بوصلة أقوام ومذاهب في المنطقة، فنتج عنها خراب ودمار في العراق وسوريا، وخرج الكرد سالمين منها بعض الشيء بفضل مجابهتهم الباسلة ومحاربتهم الشجاعة للارهاب وخاصة في كركوك وروزافا وسنجار حفاظا على نفسه وعلى شعوب المنطقة وعلى الانسانية والسلام الاقليمي والعالمي.
ولكن يبدو ان الامتياز المميز للمجتمع الكردي المتعلق بالتعايس الاجتماعي المتنوع المتسم بالتسامح والمودة والكرم الانساني تشوبه ممارسات غير انسانية وسلوكيات غير اخلاقية للسلطة المستبدة الحاكمة لاهداف مافوية شريرة ولاغراض ونوايا متسمة بالجشع والطمع والاستغلال شبيهة بالجاهلية القديمة التي سادت شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الاسلام.
والجاهلية الجديدة للسلطة الكردية وصلت الى حد لا يطاق لا على الارض ولا في السماء، حيث فشلت في قيادة الاقليم فشلا ذريعا منذ ربع قرن من الزمن، وبدت بعيدة عن الوطنية والمسؤولية واخلاقيات الحكم، وفوق هذا وطوال أكثر من عقدين من الحكم لم تلجأ السلطة الى بناء اية بينة تحتية للموارد الاقتصادية لضمان الاكتفاء الذاتي وتأمين الامن الغذائي، ولم تلجأ الى تأمين اي خزين للموارد الغذائية تحسبا للطواريء والكوارث، ولم تلجأ الى توفير أي خزين او صندوق احتياط من الموارد المالية وغيرها من الاحتياطات الحيوية لحماية المواطنين.. ومع كل هذه الخزائن الفارغة من الغذاء والمال والوقود، ومع كل هذا الحشاء المجوف تلجأ السلطة بحكم جاهليتها الى مغامرة الاستفتاء لتعذيب واهانة جياة وكرامة شعب الاقليم.
والغريب وبرغم رفاهية أهل السلطة وزبانيتها نجد ان البعض منهم يلجأ الى طلب اللجوء في البلدان المتقدمة طلبا لرغد العيش وأمان الحياة، ومنهم مستشار كبير لرئيس الحكومة ونائب من برلمان كردستان، وان كان الامر هكذا فأين الحسن والخير من دعوة البارزاني للاستفتاء اذا كان كبير مستشاره ورئيس لجنة اعادة صياغة الدستور في السلطة يفر بجلده من جاهلية الحكم، وأين الوطنية والأمان والسلام والمستقبل الأمين من جاهلية العوائل الحاكمة اذا كان نائب يفر بجلده ويترك المصوتين له ليذوقوا مرارة الحياة وعذابها وقسوتها، هذا عدا ما لأبناء وأقارب أهل السلطة وحاشياتهم وخدمهم وحشمهم من ثروات وأموال طائلة وجنسيات أجنبية وقصور وفيللات وشركات ومصارف في خارج الاقليم، وكل هذا في ظل حكم الفئة الباغية من المافيات، وزبانية طاغية من الجاهلية فرغت البلاد والشعب من الموارد في ارضها وسمائها، واستولت على كل الثروات والاموال والممتلكات، فجعلت من خزائن الكرد فارغة لا لقمة فيها لليوم العصيب، ولا مال فيها لليوم الاسود، فهل يعقل ان يترك مصير شعب بحاضره ومستقبله وباستفتائه وبقرار استقلاله الى هذه الفئة والسلطة الجاهلة ويوضع تحت تصرف أهل الباطل؟، حذار حذار يا عقلاء القوم، وحذار وحذار يا دعاة كلمة حق يراد بها باطل «فبأي آلاء ربكما تكذبان» يا دعاة الجاهلية ويا دعاة الظلم بسلطة الاقليم، وإعلموا «ان الباطل كان زهوقا» مهما جال وطال ولكن في النهاية سيسحق تحت اقدام الشعب، والله من وراء القصد.
*كاتب وصحفي