تُثير فكرة المدينة العمرانية في المنظومة الدولتية المعاصرة سؤالا مفتوحا وفاعلا حول مشروع صناعة هذه المدينة، وحول هويتها ووظيفتها في سياق تاريخي استلابي لمفهوم حداثة المدينة، فهذه المدينة يفترض وجودها تجاوزا لعقدة المكان العربي، وللطبيعة الأثرية المتحفية التي عَلُقت بصورة المدينة الحمائية، مدينة الاسوار والتكايا التي ألِفها العقل العمراني العربي، وباتجاه أنْ تكون المدينة المقترحة مفتوحة، مدينة استعمالية، قابلة لأنْ يتحول فيها المكان الى عنصر توليدي للمعيش والحوار وتبادل المنافع الاقتصادية والثقافية، اذ تضع المدينة في ضوء هذا التوصيف نفسها امام أنسنة وجودية متعالية للمكان، وامام قراءة اجرائية لبنيته، ولظاهريته، بعيدا عن اي توصيف محكوم بعوامل التاريخ الاستعادي الذي فقد كثيرا من شروطه الوجودية، وظل مكتفيا بطبيعته الاشارية الغائمة.
فكرة المكان التجاري والعمراني- تحول الى فكرة استعارية للمعنى والوظيفة بدالة الاستعمال، وبشرطية التحوّل الى بيئة منتجة لما يسميه بول ريكور ب(فائض المعنى) اي إن المكان يمكن أن يصير أكثر تمثّلا للغة، وصلاحيتها للتدوال، وأن تكون مجالا استعماليا متعدد الاغراض، والى خطاب عابر للنسق التقليدي للامكنة، وبالتالي فانه بات علامة للتوليد الداخلي- جمالية البناء والتعبير، والى علامة للتواصل، بوصفه معطى ذات طبيعة ظاهرة في الوجود، وذات اثر سايكولوجي مدرك، وهذا المعطى تحول في السياق السياسي والاقتصادي الى شكل مفتوح لإعادة أنسنة الجماعات، ومنها الجماعة الحاكمة، والجماعة المستثمرة، والجماعة التي تستعمل المكان للضرورات الانسانية والتواصلية والتجارية، وعلى وفق ذلك فان هذا المكان المفارق للتاريخ/ الاثر سيكون صانعا لمنظور جديد للتاريخ ولفهم الامكنة، والذي يقوم على فكرة استعمال المكان وليس الفرجة عليه او الاغتراب عنه، وهذا الاستعمال سيكون ايضا اكثر انسانية وتمثيلا للمعنى والوجود، واكثر تعبيرا عن العلاقة الحيوية ما بين الانسان والمكان والتعبير عن الطريقة المثلى لبيان وظائفيته الناجعة.
فمدينة عمرانية مقترحه مثل(دبي) يمكن أن تحمل معها توصيفا جديدا للمدينة الاستعمالية، والذي يقوم على فكرة التوظيف متعدد الاغراض، وبما يجعل هذا المكان علامة على التجديد والتحوّل، ومجالا لقبول وممارسة فعاليات تمنح المكان قوته الواقعية والرمزية، حيث تمتزج الثروة مع وظيفتها الانسانية والاستهلاكية في انتاج مظاهر توليدية للمعيش والرفاهية والتواصل، وتجسير العلاقة مع العالم، لان الفاعل في هذه العلاقة سيكون الفائدة الانسانية واستثمارها، والتعبير عنها من خلال برامج ومشاريع واسعة للخدمات وللتجارة والتبادل اللساني/ الثقافي، والتعاطي معها من خلال التوظيف الحيوي لرأس المال النقدي والسلعي والخدماتي، وكذلك لرأس المال الرمزي القيمي بكل تمظهراته الاجتماعية والثقافية- ندوات، مهرجانات، اسواق تجارية، معارض للكتاب، فعاليات للأفلام السينمائية والمسرحية والغنائية، فعاليات رياضية، مؤتمرات دينية وغيرها..
بغداد والبصرة والكوفة والحلة والموصل مدن تاريخية، لكنها تحولت بفعل تاريخ الغزو والحروب والديكتاتوريات الى مدن حرب، وتهميش، حيث تفكك التاريخ أمام رعب العسكرة، والمحو، وشاهت ذاكرة المدينة، وفقدت كنوزها وسحرها، واصطنع لها الطغاة أقنعة غائمة، تبرر اخضاعها، وقمعها، حدّ سعي البعض من الطغاة لافتقادها شرطها الحضري والمدني، والعمل بقصدية واضحة على ترييفها، وتطييفها، وبالتالي افتقدها القدرة على أنْ تكون أفقا، ومجالا صالحا للتحوّل الحضاري…
علي حسن الفواز
المدينة بوصفها أفقا للاستعمال..
التعليقات مغلقة