ليلى والذئب وما بعد الحداثة

حمزة الأمير حسين

طالما تعودنا صغارا وحتى كبارا أنّ ليلى هي تلك الفتاة البريئة التي تعيش مع جدتها في الغابة, لتمثل لنا أيقونة الخير والجمال. في مقابل الذئب المتوحش والشرير ممثلاً لأيقونة الشر والقبح. ولم يكن ليتبادر لنا مواجهة أو معارضة مركزية مثل الخير والشر(الإنسان/الحيوان) بمقولات وقوانين الحداثة وفلسفتها العقلانية المهووسة بالسيطرة والتحكم بكل شيء بما في ذلك الطبيعة والحيوان ورغبتها بترسيخ النظام والتراتبيات والطبقية والصراع كما عكسته فلسفة الجدلية (الديالكتيك)- سواء الهيغلي المقلوب على رأسه, أو الماركسي الواقف على قدميه- والتي أسست لسرديات كبرى يقينية لا تقبل الشك. علما أن رائد فلسفة الشك (رينيه ديكارت) الفيلسوف والرياضياتي الفرنسي وأبو الفلسفة الحديثة عاصر النصف الأول من القرن السابع عشر (و. 31 مارس 1596 – ت. 11 فبراير 1650), بينما ظهرت قصة ليلى والذئب أو (ذات الرداء الأحمر) في موطنها فرنسا في نهاية النصف الثاني من القرن السابع عشر لمؤلفها (شارل بيرو) سنة (1698). وكل تلك المدة الطويلة من الزمن وعلى الرغم من أنّ (شارل بيرو) شارك (ديكارت) أرض الشك والفلسفات الحديثة والحداثية إلاّ أنّ قصته بقيت خارج دائرة الشك والتحقيق وبلغت مرتبة الحقيقة التاريخية ودخلت البيوت واستقرت في العقول وتسلقت ذاكرة الجدات والأُمهات ووعيهنّ لينقلْنَها ويلقنّها أحفادهنّ وأولادهنّ متسللة عبر أحلامهم إلى لا وعيهم ووعيهم فيما بعد ..
هكذا تكتسب الحكاوي والقصص الخيالية والأحاديث والأقاويل درجة الصدق فتصبح فيما بعد حقيقة تتداولها الألسن والكتب ويُكتفي فيها بالرؤية من جانب واحد يقصي كل جوانب الرؤية المتبقية والممكنة وعند تلك اللحظة يختفي الآخر أمام حضور وسلطة ذات ساردة متلاعبة لا تعطِ للآخر حقه في مشاركة السرد ووجهة النظر. وهو الدور الذي نهض به (حفيد الذئب) المقصى من دائرة الرأي ليكنس غبار الزمن الذي غطى وحجب الوجه الآخر من القصة ووجهة نظر المتهم (الذئب). حتى وإن كانت الرؤية المضادة على سبيل السخرية, (فالسخرية) هي من أدوات ما بعد الحداثة المهمة في محاكاة الواقع أو القصص والروايات أو التاريخ الذي اختطته الأوهام البشرية فنحن أمام حالة من التناص التهكمي الذي لا يبتعد عن منهج الثلاثة الرواد (ماركس وفرويد ونيتشه ) عندما واجهوا العقل الغربي وسخروا من مسلماته ولاسيما (فردريك نيتشه) الفيلسوف الساخر والمتهكم العبقري من كل ما هو ألماني وثابت وصنمي في الفكر والعقل الغربي, الذي أثر في فلاسفة كثر من أمثال ميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز. وهنا لابدّ أن نؤكد أهمية الشك والريبة والسخرية والتناص واللعب والتأويل في مواجهة النصوص والخطابات الأدبية أو الفلسفية وعدم التوجه المباشر الى الواقع والتاريخ والمسلمات أو ما يدعى حقيقة فقط, بل إلى كل ما يكتب من روايات وقصص وشعر ومقالات ودراسات ونصوص فلسفية وغيرها لأنها مهما فعلت فلن تستطيع أن تدعي أمراً أنكرته على الآخرين, وللأسف ذلك ديدن الكثرة الكثيرة ممن يكتبون لذا فلا بدّ من مواجهتهم بالسخرية والتهكم وهم يدّعون احترامهم للآخر ويتبجحون بترديد المقولات وشعارات ما بعد الحداثة من نصرة الهامشي والآخر والاختلاف.. وينسون أو يتناسون الشعارات والنظريات التي لا تجد لديهم مكانها للتطبيق والفعل. وننقل لكم هنا الرواية المضادة للرواية المركزية ل(ليلى والذئب) ولكن هذه المرة الراوي هو حفيد الذئب ((كان جدي الذئب لطيفا طيبا ولا يأكل اللحوم، وقرر جدي الذئب ان يكون نباتيا أي أن يعيش على أكل الحشائش والخضروات والفواكه. وكانت تعيش في الغابة فتاة شريرة اسمها ليلى تسكن مع جدتها. وكانت ليلى تخرج كل يوم الى الغابة وتقتلع الزهور وتدمر الحشائش التي كان جدي الذئب يقتات عليها. وكان جدي يحاول أن يثنيها عن ذلك دون جدوى، فكانت ليلى تعاند وتقطع الحشائش، فقرر جدي الذئب أن يزور جدة ليلى في بيتها ويخبرها بأفعال ليلى. ولما وصل البيت وطرق الباب، فتحته الجدة، لكنها للأسف كانت شريرة أيضاً، فأحضرت الجدة العصا وهجمت على جدي المسكين دون أن يتعرض لها، فدافع عن نفسه ودفعها بعيداً عنه، فسقطت الجدة وارتطم رأسها بالسرير وماتت جدة ليلى الشريرة.
تأثر جدي الذئب كثيراً لموتها، وأخذ يفكر بليلى.. كيف ستعيش دون جدتها؟! فقام ولبس ملابس الجدة ونام في سريرها، ولكن ليلى الشريرة لاحظت التغيير في شكل جدتها، فخرجت ومنذ ذلك الحين وإلى الآن وهي تشيع في الغابة وبين الناس أنّ جدي الطيب هو شرير وقد أكل جدتها وحاول أن يأكلها أيضا !!)) فـ(حفيد الذئب) يمثل لنا الأمل الما بعد حداثي في اظهار الوجه المغيب من الحدث مهما اعتقدنا باستحالته أو عدمه, وبأنّ الشر والخير قيم متحركة متغيرة طالما أنّ مخترعها الانسان.
وأودّ أن أختم مقالي هذا بمقولة للفيلسوف اميل سيوران ((أعلَمُ أنّ ولادتي مُصادفة، حادثةٌ مُضحكة، وعلى الرغم من ذلك فإنّي ما أن أنسى نفسي حتى أتصرّف وكأنّها واقعة رئيسيّةٌ ضروريّةٌ لمسيرة العالَم وتوازُنه)). مثالب الولادة, تر:آدم فتحي, منشورات الجمل(ص11).

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة