هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث

د. فخري قدوري
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
الحلقة 4
شكل قرار الغاء القرض من جانب العراق , بهذا الاسلوب المفاجئ , صدمة للبنك وعلى رأسه مكنمارا الذي كان رحب بالتعاون مع العراق وذلل ما اعترض الطريق من مصاعب.
وبعد بضع اشهر حلت مناسبة اخرى جمعتني مع مكنمارا , وكنت في حينه اشغل منصب محتفظ البنك المركزي العراقي , اذ سافرت لحضور الاجتماعات السنوية المشتركة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن , وكان بصحبتي الدكتور فوزي القيسي وزير المالية آنذاك الى جانب عدد من الخبراء . وكما هو معروف فقد كان كل من وزير المالية ومحافظ البنك المركزي يمثلان العراق في تلك الاجتماعات .
جرى ابلاغنا برغبة مكنمارا باللقاء في مكتبه , وبالفعل دهبنا انا والقيسي في الموعد المتفق عليه , فرحب الرجل بنا اجمل ترحيب ودار حديثه , كما توقنا , حول التعاون مع العراق مؤكدا رغبته بتعزيزه رغم الملابسات التي المت بتمويل المشاريع الصوامع
واغتنمت المناسبة لأذكره بسير المفاوضات السابقة , التي توليت رئاسة الوفد العراقي فيها , واصرار البنك في البداية على قضايا يعتبرها العراق مساسا بحق اختياره النهج الاقتصادي العام , وهي من المسائل الحساسة لدى العراق .
وخلال الاجتماعات العامة التقى بنا بعض الموظفين العرب الكبار في البنك الدولي وعبروا عن سعادتهم لخطوة العراق بإلغاء التمويل , معتبرين الموقف درسا للبنك تجاه محاولاته المستمرة للتدخل بشؤون البلدان الصغيرة .
تحويلات ممنوعة نظاماً :
مع روح الفردية لم تكن الرغبات اسهل للتنفيذ من امرارها عبر قرارات تصدر باسم مجلس قيادة الثورة . وظهر الاحتكاك حين اصر صدام اوائل العام 1975 على تمرير عاجل لقانون في المجال المالي فيما كان مكتب الشؤون الاقتصادية لمجلس قيادة الثورة بحاجة الى وقت لدراسة المشروع , فتبرم صدام وتجاوز في كلامه معي حدود اللياقة .
بلورت تلك الحادثة عام 1975 لدي القناعة ان صيغة تعامله معي لم تعد قائمة كما كانت بل تحولت الى بغض وكراعية .
وفي اثناء عملي محافظاً للبنك المركزي (1976-1978) طلب مكتب صدام تسهيل تحويل احد المبالغ لشخص اجنبي ينوي المغادرة بعد اداء مهمة قصيرة له في بغداد .
اطلعت مكتب صدام على فحوى رأي المديرية المعنية بمخالفة التحويل المطلوب نظام التحويل الخارجي . وبعد دقائق اعلمني سكرتير صدام الرائد علي العبيدي هاتفياً بوجوب تنفيذ الطلب وان قرارا لمجلس قيادة الثورة بهذا الشأن في الطريق . وهذا مثال لحالات كثيرة ضربت فيها القوانين والانظمة عرض الحائط .
بغض في غير محله :
وافى اخي الاكبر (عبد القادر) الاجل اوائل عام 1978 حين كنت محافظا للبنك المركزي , وقامت وزارة المالية , التي قضى جل حياته موظفا فيها , بالتعبير عن الاسى بلافتات علقت على جوانبها .
وبادر البكر رئيس الجمهورية واعضاء من القيادة القومية للحزب ومجلس قيادة الثورة والوزراء والاصدقاء بالتعزية , وكنت وابن عمي شفيق الكمالي نستقبل حشود المعزين في مجلس الفاتحة طيلة ثلاثة ايام . واستغربنا بألم تصرف صدام بالامتناع عن اداء واجب التعزية . وحين نشرت عائلتنا في الصحف المحلية كلمة شكر لرئيس الجمهورية والاخرين ممن ادو الواجب برقيا او هاتفيا او بالحضور الى مجلس الفاتحة شخصياً او بالإنابة , خلت كلمات الشكر بطبيعة الحال من ذكر اسم صدام حسين الذي عدت العائلة تصرفه مشينا وفسرته بنقل غضبه المنصب على الانسان الحي الي يبغضه الى الذي يقضي ولا ذنب له ,
وفي ضوء معاتبة جارحة لي من بعض عناصر المخابرات لنشر كلمات الشكر خالية من اسم صدام ايقنت ان المسألة دونت في ملفي لدى صدام للثأر في يوم من الايام .
سحبت استقالتي بعد وعود من صدام
تصاعدت مضايقات جهاز الامن في المجلس الوطني حيث مكتب صدام ومكتب الشؤون الاقتصادية , بدءا بتعليمات اصدرها جهاز الامن بوجوب ركن سياراتنا الرسمية في وضع تكون خلفية السيارة متجهة الى نهر دجلة – كاحتياط امني _وليس الى بناية المجلس كما كان الوضع عبر سنوات . وتبين ان الاجراء الجديد يهدف الى تفادي احتمال توجيه قذائف باتجاه بناية المجلس مخفية في صندوق سيارة رسمية !
ثم تلا توزيع جهاز الامن استثمارات على اعضاء المكتب تتضمن طلب معلومات لا ضرورة لها الى جانب اسئلة مقرفة كسؤال ما اذا كان للعضو شقة اخرى غير داره يستمتع فيها اثناء وقت الفراغ ! وينطبق هذا السؤال على الموظفين والموظفات مما اثار الدهشة والامتعاض . وحين قيامي بسحب هذه الاستثمارات انزعج برزان التكريتي – الاخ غير الشقيق لصدام والمسؤول عن الحماية في المجلس الوطني – وامتعض صدام من تصرفي .
بعدها بفترة ابلغني غانم عبد الجليل عضو مجلس قيادة الثورة وعضو القيادة القطرية –وكان مكتبه في المجلس الوطني ايضا – بوجوب رحيل مكتب الشؤون الاقتصادية من بناية المجلس الوطني الى مكان اخر ! وكان واضحا ان مثل هذه الخطوة لم تأت من دون أشارة او موافقة من صدام .
في الواقع لم انتظر تكامل مسلسل الاحداث , فكنت اقرأ مسارها منذ البداية . فقدمت استقالتي من رئاسة مكتب الشؤون الاقتصادية يوم 29 مايس /مايو , 1975 , الا ان البكر – الذي كان على علم بالمضايقات التي احاطت بي – رفضها وتحدث بشأنها مع صدام الذي سارع في اليوم نفسه بالمجيئ الى مكتبي طالبا العودة عن الاستقالة ووعد بإزالة كل المضايقات !
تعييني محافظاً للبنك المركزي العراقي
في اواسط 1976 برزت حاجة مجلس قيادة الثورة لأشغال محافظية البنك المركزي العراقي بمحافظ اصيل بعد ان اصبح المنصب شاغرا عقب تعيين (المحافظ) الدكتور فوزي القيسي وزيرا للمالية . واخذ الانتظار والتداول فترة طويلة حتى صدر قرار من مجلس قيادة الثورة في الاول من تموز/يوليو 1976 بتعييني محافظا للبنك المذكور .
كانت دهشتي كبيرة وامتعضت من الامر , اذ لم افاتح به مسبقا , ولم يؤخذ رأيي , ولم اعلم بالقرار الا بعد ان وضعته سكرتيرتي على طاولتي وكنت آنذاك خارج المكتب .
قابلت البكر وبينت له تعلقي بمركزي الحالي – رئيس مكتب الشؤون الاقتصادية – وعدم الرغبة بالمنصب الجديد , واوضحت له استغرابي من ان السكرتيرة علمت بالموضوع قبل علمي انا صاحب الشأن!
اتصل البكر برئيس ديوانه يحيى ياسين مؤكدا ضرورة ابلاغ المعنيين بقرارات المجلس هاتفيا كي لا يباغتوا . وحين انتقل الحديث الى صلب الموضوع قال البكر : يا دكتور , ثقتنا فيك كبيرة ونريدك محافظا للبنك المركزي , فهذا البنك بالنسبة للبلاد بمنزلة رباط على عنق الرجل , فأن اسئ الاستعمال وشد بقوة فقد يخنقه , ونحن الان نسلم بيدك هذا الرباط لثقتنا الكبيرة بنزاهة الاستعمال . لم استطع ان اجيب البكر بكلمة بعد تعليقه هذا . ثم تابع كلامه بالقول : ان كنت متعلقا هكذا برئاسة مكتب الشؤون الاقتصادية فبإمكانك القيام بالمهمتين في ان واحد . وهكذا صدر قرار لاحق بهذا الشأن , وتوزعت ايام عملي الاسبوعية بين هاتين المؤسستين طيلة عامين متتاليين حتى جاءت مفاجئة اخرى.
ترشيحي أميناً عاماً لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية
شكل ترشيحي لهذه المهمة مفاجأة كبيرة لي , حيث كنت آنذاك محافظا للبنك المركزي واتولى رئاسة مكتب الشؤون الاقتصادية لمجلس قيادة الثورة في ان واحد .
مساء الثامن من اذار /مارس 1978 رن جرس الهاتف في داري , وكنت منهمكا في ترتيب ملابسي واوراقي استعدادًا للسفر بعد ساعات قليلة الى العاصمة الماليزية “كوالا لمبور ” لحضور اجتماعين متتاليين ؛: اجتماع محافظي البنوك المركزية للدول الاسلامية والاجتماع السنوي لمجلس محافظي البنك الاسلامي للتنمية .
كان على الهاتف حسن علي – عضو مجلس قيادة الثورة ووزير التجارة – الذي اعلمني بقرار المجلس ترشيحي لمنصب الامين العام لمجلس الوحدة للسنوات الخمس المقبلة , طالبا مني ارسال نسخة من سيرتي الذاتية الى مكتبه بالسرعة الممكنة بيد سائق سيارته الذي سينطلق نحو داري فورا .
ذكرت له عدم وجود رغبة لي بهذا المنصب بتاتاً , وسيؤدي الى متاعب عائلية جمة انا في غنى عنها , ورجونه بإلحاح مراجعة الامر . لكن ذلك لم يغير من موقفه شيئاً وأصر على قيامي بأرسال ما طلب . وهكذا تكرر اتخاذ القرار من دون مداولة مع الشخص المعني كما حدث تماما حين صدر قرار تعييني محافظا للبنك المركزي دون علم مسبق .
بقي املي الوحيد , وانا في الطريق الى ماليزيا , ان اتحدث مع رئيس الجمهورية احمد حسن البكر في الموضوع حين عودتي الى بغداد بعد عشرة ايام .
يا لها من احداث متسارعة ! ففي اليوم الاول للاجتماع في “كوالا لمبور “- الثاني عشر من اذار /مارس – اعلمتني السفارة العراقية بورود برقية تهنئة لي من بغداد ما جعلني ادرك حسم موضوع الترشيح . وتبين لاحقاً ان وزراء مجلس الوحدة الاقتصادية , ومن بينهم الدكتور فوزي القيسي وزير المالية ممثلا العراق الذي كان يحمل معه سيرتي الذاتية , عقدوا اجتماعهم بالكويت في اليوم السابق وقرروا بالإجماع تعييني اميناً عاماً للمجلس لفترة خمس سنوات ابتداء من اول مايس/ مايو المقبل , ما يعني وجوب التحاقي بالمهمة الجديدة في القاهرة في غضون ستة اسابيع فقط تلى عودتي الى بغداد !
بقيت منشغلا , مدة من الوقت , بتفسير الاصرار على ترشيحي لهذه المهمة خارج العراق , في الوقت الذي كنت اشغل منصبين مهمين : محافظية البنك المركزي ورئاسة المكتب الاقتصادي لمجلس قيادة الثورة . واسترجعت في الذاكرة ما قاله لي احمد حسن البكر اثر صدور قرار تعييني محافظا للبنك المركزي قبل عامين فقط ان القيادة اختارتني لهذا المنصب وسلمتني معه رباط عنق البلاد كلها !
لم اجد تفسيرا لهذا التطور سوى تطابق ترشيحي مع رغبة صدام حسين بأبعادي عن مسرح السياسة الاقتصادية في البلاد معتبرا وجودي في بغداد يشكل اعاقة لما يريد تمريره بشأن الخطط الاقتصادية والانفاق العام والتحويلات الخارجية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة