جمالية الإيحاء في قصيدة (نسل هابيل) لحيدر خشان

عبَّاس عبد السادة

يمثل الإيحاء آليَّة مهمَّة من آليَّات التعبير البليغ، ولا يخفى ماله من قيمة جماليَّة في النُّصوص الأدبيَّة، وتتعدد أشكال الإيحاء بتعدد آليَّات التعبير التي تفضي باللغة من حيِّز إلى آخر، فتارة يكون الإيحاء تناصَّاُ، وتارة فنوناً بديعيَّة كالمقابلة، وتارة كناية بيانيَّة، وغيرها. وقد وظَّف الشاعر حيدر خشان في قصيدته (نسل قابيل) إيحاءاته الجميلة بلغة جزلة ذات إبداع فنِّيٍّ متقن.
القصيدة مرثيَّة تحكي قصة الموت بشرف التي ترويها دماء أبناء العراق في معركتهم المقَّدسة ضد زمر الإرهاب، وقد اختار الشاعر عنواناً يرمز إلى ذلك الموت المقدِّس عبر توظيف قصة هابيل الذي حكى القرآن الكريم مقتله مظلوماً على يد قابيل، ولم يخلُ العنوان من الإشارة إلى مظلومية أبطال العراق، فهم (نسل هابيل) هكذا جاء العنوان.
وهابيل ابن العراق يختلف عن هابيل ابن آدم، فهابيل ابن آدم سلم أمره للقتل قائلا: ((لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنِّي أخاف الله ربَّ العالمين)) (المائدة: 28)، أما هابيل ابن العراق فيصفه حيدر بقوله:
إذا عنْ ديارِ الله لمْ يحشُدِ الفتى
بَنيهِ، فعنْ أيٍّ إذا ما العِدى اصْطَفَّا ؟!
مواثيقُهم قد عُلِّقَتْ في نحورهِمْ
وأسماؤهم في لوحةِ الخُلْدِ لن تُطْفا
جَرَتْ بِهِمُ الأيامُ جرياً مُعَجَّلاً
وهُم طالما دَبَّوا على قلبِها لُطْفا !
نواياهُم البيضاءُ شَفَّتْ صدورَهم
لذلك في وجهِ الرصاصِ تَرى شَغْفا
ومِنْ ألفِ هابيلٍ تناسلَ طينُهُم
وإثمُهُمُ في كفِّ قابيلَ ما جَفَّا
فهذه الأبيات تبين المواجهة التي قام بها هؤلاء الأبطال وإن لم يصرح بها واضحاً، إلا في قوله:
ودارتْ رحىً ملأى بأشباهِ سُنْبُلٍ
فَدُرْتَ جديراً ، تَطْحَنُ الحربَ والحَتْفا
ويفتتح القصيدة قائلا:
أعِرْ لي مِدادَ البحرِ والبوحَ والمنفى
وبَارِكْ بحزني، واقطفِ الهَمَّ لي قَطْفا
في هذا المطلع يستمر الإيحاء القرآني في القصيدة إذ يستمد الشاعر فكرته في قوله تعالى: ((قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي…)) (الكهف:109)، وهو كناية عن الكثرة، والشاعر هنا يريد أن ينبئ بأنَّ لديه الكثير، لكنَّه يريد أن يستعير البوح ليعبر عن حزنه، ويريد (المنفى) أيضا، وفي استعمال المنفى هنا إشارة للحنين إلى من يرثيهم، فإنَّ المنفى عادة ما يكون زمكاناً للبوح بالحنين، فأراده ليوحي بحنينه وشوقه إلى من يرثيهم.
والشاعر هنا عندما يطلب المداد والبوح والمنفى يوحي بأن قلبه فارغا لشدة الحزن، فيذكرنا بقوله تعالى: (( وأصبح فؤاد أمِّ موسى فارغاً، وإن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها)) (القصص:10)، ذلك الحزن الذي يصفه مباركاً عندما يقول:
وبَارِكْ بحزني، واقطفِ الهَمَّ لي قَطْفا
ويقول عنه أيضا:
وَهَبْ أنْ توارتْ عَنْ عيوني عيونُهُ
فكيف أُواري الشَّجْوَ والأدمعَ اللهفى ؟!
يعجُّ بهِمِ نايُ المواويل إنْ سها
ويُبدي بِهِم إنْ مارَسَ الحُبَّ والعَطْفا
ويستمر الإيحاء القرآني في النص، عندما يوظف بلمحة قصة النبي يوسف (عليه السلام) إذ يقول:
واقْبَلَ والدنيا تَزَيَّتْ بزِّيِّها
فأدْبَرَ صِدِّيقاً وعنْ إثْمِها عَفَّا
ومن الإيحاء القرآني في النص أيضا قوله:
تَعَرَّتْ بلادُ الأنبياءِ ، فبادروا
على عُرْيِها مِنْ سُنْدُسٍ أخْضَرٍ خَصْفا
وهو يتناص هنا مع قوله تعالى:
((وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنَّة)) (الأعراف: ٢٢)
ولأنَّهم شهداء على نهج أبي الأحرار (عليه السلام)، يوحي الشاعر بمقولة : ((إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى)) التي قالها الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم الطفِّ، فيقول:
وقالوا لهُ خُذْ ما تشاءُ لترتضي
نحورَ رجالٍ ثِقْلُها أجْهَدَ الكِتْفا !
وإنَّ لكم من كربلا كلَّ صرخةٍ
وإنَّ لكم في طفِّها المغتلي طَفَّا
ثم
إذا عنْ ديارِ الله لمْ يحشُدِ الفتى
بَنيهِ، فعنْ أيٍّ إذا ما العِدى اصْطَفَّا ؟!
مواثيقُهم قد عُلِّقَتْ في نحورهِمْ
وأسماؤهم في لوحةِ الخُلْدِ لن تُطْفا
والحديث عن المواثيق المعلَّقة في النُّحور، يوحي بقوله تعالى: ((وكلَّ إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً)) (الإسراء :13)، وقد استبدل هنا الأعناق بالنحور، والطائر بالميثاق، لينتقل في سياقه من الوعيد القرآني، إلى رثائه الذي يعد فيه بطولات أبناء بلده، ومادام حديثه عن أبطال شهداء فقد وظَّف (النحر) موحياً بالنحر الحسيني المضيء درب الشهداء. وعبَّر بالميثاق ليوحي بأصالة هؤلاء الشهداء الذين حفظوا ميثاقهم، وصانوا عهدهم بالدماء الزواكي.
وفي قوله:
جَرَتْ بِهِمُ الأيامُ جرياً مُعَجَّلاً
وهُم طالما دَبَّوا على قلبِها لُطْفا !
يوظف ما يعرف بفن المقابلة البديعي في البلاغة العربية، إذ يذكر أمرين متقابلين، ويقارن بينهما، بين جري الأيام وهو كناية عن سرعة الفراق، ودبيبهم بلطف في تلك الأيام، وهو كناية عن حسن سيرتهم، ولطف معاشرتهم، فهم أصحاب نيات بيضٍ عشقها حتى الرصاص، إذ يقول:
نواياهُم البيضاءُ شَفَّتْ صدورَهم
لذلك في وجهِ الرصاصِ تَرى شَغْفا
ويختتم النص بتقنية الاسترجاع النصي، إذ يحيل من جديد على عنوان القصيدة الذي يسمى العتبة الأولى للنص، فيقول:
ومِنْ ألفِ هابيلٍ تناسلَ طينُهُم
وإثمُهُمُ في كفِّ قابيلَ ما جَفَّا
ليكون هنا ختام القصيدة بالمطلع، ونحن في ذكرى الحسين (عليه السلام) يذكرنا هذا الكلام الأخير، بقول الجواهري في الحسين :
فيا واصلا من نشيد الخلود
ختام القصيدة بالمطلع.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة