أندريس فيلاسكو
وزير المالية السابق في شيلي.
تواجه الصحافة الدولية صعوبة في وصف المواقف السياسية لاٍيمانويل ماكرون الفائز في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في فرنسا. وقد دعاه البعض بالليبرالي؛ وآخرون بالمعتدل؛ واستقر معظمهم أخيرا على أنه وسطي.
هذا الخيار مقبول، لكن ليس من دون مشكلات. إذ يعني مجرد وسط، كما لو كانت أفكار الوسط فقط مزيجا من اليمين واليسار. في الواقع، تنتمي الحركات السياسية الوسطية الناجحة إلى ما وصفه عالم الاجتماع أنتوني جيدنز بالوسط المتطرف: وهي قوية أيديولوجيا ولديها أفكار متميزة خاصة بها.
ماكرون والليبراليون الآخرون، مثل رئيس الوزراء الكندي جوستين ترودو، أو الحزب الجديد سيودادانوس في اٍسبانيا، ما يزالون يعملون على تحديد هدفهم. وهذه فكرتي حول ما ينبغي أن يتضمن جدول الأعمال السياسي الليبرالي الحداثي والوسطي.
ولنبدأ بفلسفة سياسية. يدعي اليمين أنه يدافع عن الحرية. لكن فكرة الحرية هي ما أطلق عليه إسايا برلين «الحرية السلبية»: التحرر من الإكراه الحكومي، من التنظيم المفرط، أو الضرائب العقابية. لكن لأن الطفل الذي نشأ في الفقر، ودرس في المدارس الفرعية الرديئة، والذي كان يُعامل باحتقار يفتقر إلى ما أسماه برلين بالحرية «الإيجابية» ليصبح عالم فيزياء فلكي أو قطب وول ستريت، ويعتقد الوسطيون أن سياسة الحكومة يجب أن تضمن الفرص الأساسية لجعل المواطنين أحرارا.
ويدعي اليسار بدوره أنه يساند المساواة. لكن أي نوع من المساواة؟ المساواة في الدخل، الثروة، السعادة أم في المصير؟ ولأنه يفتقر إلى إجابات دقيقة على هذا السؤال، فإن اليسار التقليدي يميل إلى الانفتاح، مما يسمح للحكومة بالتوسع بلا حدود – أو التركيز على الوسائل بدلا من الغايات. على سبيل المثال، يصر اليساريون على أن التعليم الجامعي يجب أن يكون مجانيا، بدلا من التركيز على نوعية هذا التعليم.
وعلى النقيض من ذلك، يطالب الوسطيون الحداثيون بحكومة قوية تضطلع بمهمة تأمين الحرية الإيجابية – لا أكثر ولا أقل. وتدعو الفيلسوفة السياسية الأميركية إليزابيث أندرسون هذا بمستوى المساواة الديمقراطية. يجب على الحكومة أن تضمن (وإذا لزم الأمر، دفع ثمن) التعليم الجيد بما فيه الكفاية لتلقين المهارات التي تسمح للمواطنين بالتفاعل كمتساوين ديمقراطيا. دروس الرياضيات الصارمة أو اللغة؟ بالتأكيد. دروس التنس أو الطبخ؟ ربما لا.
ينبغي أن يكون الوسط الليبرالي الجديد مؤيدا للسوق، وليس مؤيدا للأعمال التجارية. وينبغي أن يبدأ من الملاحظة التجريبية بأنه لم ينمُ أي اقتصاد على أساس مستدام من دون الاعتماد على الأسواق والتبادل الحر. لكن، خلافا للحرفيين، لا يعتقد الوسطيون أن الأسواق يمكن أن تعالج جميع العلل؛ على العكس من ذلك، في بعض الحالات (التمويل هو المثال الأكثر وضوحا)، يمكن للأسواق غير المنظمة أن تكون مصدرا لعدم الاستقرار. وعلى عكس المحافظين المؤيدين للأعمال التجارية، لا يعتقد الوسطيون أن المنافسة في السوق تنبع من العدم: يجب تعزيزها من خلال سياسات قوية لمكافحة الاحتكار.
إن حجم الحكومة وطبيعة الأسواق معا يمثلان مسألة محددة في عصرنا. والعولمة مسألة أخرى. يجب على الوسطيين أن يدعموا الوطنية وأن يقفوا ضد القومية – كما جاء في عبارة فيليب ستيفنس، الصحافي بجريدة «الفينانشال تايمز». إن حرية تنقل الناس والسلع والخدمات عبر الحدود الوطنية تعزز الكفاءة وتساعد البلدان على تحقيق الرخاء. لكن البشر لا يعيشون بالازدهار المادي وحده. نحن نزدهر روحيا عندما نشعر بأننا جزء من مجتمع، من مشروع إنساني مشترك. واليوم هذا الشعور بالمجتمع، في كثير من الأحيان، متأصل في الدولة القومية.
إن السبيل إلى تغيير هذه الدائرة هو الإشارة إلى أننا نحب وطننا الأم ليس بسبب شعور غير عقلاني بالتفوق العرقي أو الأصلي، بل لأنه يقف على قيم نبيلة وعالمية. ماكرون يمكن أن يدعو نفسه بكل فخر الوطني الفرنسي بامتياز لأن فرنسا أعطت العالم «الحرية» ، و»المساواة»، و»الأخوة». في الانتخابات الهولندية الأخيرة، طالب الليبراليون باحترام حقوق المهاجرين لأن الاحترام والتسامح هما قيمتان هولنديتان تقليديتان، يمكن لأي مواطن هولندي أن يفخر بهما. هذه أمثلة على ما وصفه الفيلسوف يورغن هابيرماس «بالوطنية الدستورية» (وقد وصفه البعض الآخر «بالوطنية المدنية»).
هذا الموقف الفلسفي له آثار عملية. وبصفة عامة، فإن الوسطيين الليبراليين يؤيدون بقوة حركة الناس والبضائع على المستوى الدولي. لكن يجب أن يكونوا على استعداد للنظر في القيود عندما يكون التماسك الوطني على المحك. وبدلا من معارضة الهجرة، يجب أن يقدموا سياسة هجرة ذكية.
ومن الآثار الأخرى لهذا الموقف الفلسفي أن سياسات الوسط لا يمكن أن تكون تقنوقراطية وبلا روح. إن حب المؤسسات الديمقراطية الليبرالية ليس عفويا؛ يجب تغذيته وتذكيته. هذا هو هدف الجمهوريات والخطاب السياسي البارز. ويدرك القادة السياسيون الناجحون أهمية ذلك.
أخيرا وليس آخرا، على الوسطيين الليبراليين مناهضة الشعبوية. الشعبويون هم فوضويون يعِدون بأشياء مستحيلة، وهم على استعداد للتخلص من العجز وتحمل الديون التي سيتعين على أحفادنا تسديدها. على النقيض من ذلك، فالليبراليون مقتنعون أن الاقتصاد الكلي السليم سياسة جيدة. وعندما سقطت وول ستريت في الفترة 2008 و2009، لم تتمكن إلا الحكومات التي تملك الإمكانيات المالية الهائلة من توفير التحفيز لها حيث استطاعت الحفاظ على الدعم السياسي. ودولة الشيلي مثال على ذلك (الكشف الكامل: كنت وزير مالية الشيلي في ذلك الوقت).
لكن الاقتصاد السليم ليس كافيا لإعطاء الليبرالية دفعة للكفاح ضد الشعبوية. الشعبويون بمنزلة سماسرة. يقولون ما يعتقدون أن الناخبين يريدون سماعه ويستغلون قلقهم ومخاوفهم. على النقيض من ذلك، يجب على الوسطيين التعامل مع الناخبين كأشخاص عاقلين وإخبارهم بالحقيقة الواضحة ولا شيء سوى الحقيقة.
وطوال حملته، قال ماكرون للفرنسيين إن بعضهم ربما لا يريد أن يسمع: أن فرنسا فقدت القدرة التنافسية، وأن صناعاتها لم تعد تقود العالم، وأن على الفرنسيين اكتساب مهارات جديدة، وابتكار المزيد، وفتح الاقتصاد أكثر – ليس أقل – للعالم من أجل الازدهار.
لم تكن رسالة سهلة للتبليغ. لكن المواطنين الفرنسيين فهموا – وصوت الكثيرون لصالح ماكرون. السياسات المتطرفة غير مجدية. لكن الصدق المفرط عملي ونافع. أيها السياسيون الوسطيون في العالم، «إلى الأمام»!
الانضمام إلى الوسط
التعليقات مغلقة