ناجح المعموري
اللا محدد / المنفي . يذهب الى اختيار . ويستقر فيه قليلاً . وطويلاً . حتى يتمرد عليه ويغادره مؤقتاً . يكسره وكأنه مصنوع من زجاج لحظة مغادرته مرتحلاً نحو مدن لم يرها في أمريكا . أو نحو ريفها البعيد .
هو غريب . هذا حاسد حتى في ترحاله وهيامه مدفوعاً بحب داخلي بأنه كائن وفد من مكان عصي وصعب ومعقد . لا خيار له غير الشعر الذي يراه بعينه وعندما يمسكه يشعر باستراحة مؤقتة وقصيرة حتى يغادرها نحو مكان أخر . غير قادر على التآلف مع الأمكنة . لان مكانه الأول . كان وظل حلما فردوسياً . ولم يكن غريباً على قارئه أو يكتشف وهو يقرأ قصته الجميلة يجوب المدن التوصل الى الصدع الكامن في روحه والجاثم في داخل أعماقه الدفينة . كان يستشعر الأتي ويستشرفه . فكتب يجوب المدن . لكنه لم يكن مطروداً منها . بل مستدعى إليها . فهو كائن أشوري . ارتحل من عمق التاريخ حاملاً في ذاكراته المجنحات الأشورية العملاقة .
تستدعيه المدن وتختاره الصداقات . لكنه لا يطيل المكوث فيها ومعها . يطفر نافراً . كالغزال . لأنه باحث عن الشعر المرئي … قصائده ملتقطه بعينه كما سعدي يوسف . وهذا رأي نقدي مهم اقترانا مع سركون بولص . لن يختصر سعدي رؤيته النقدية العريضة بهذا القول . تعبيراً عن ظاهرته . هوسه المكاني . عيناه تلتنقان مفاصل القصيدة . ويحوز تفاصيلها صورة . صورة . وكأنه يسجل بالصورة علاقة كائن مع كينونته .
وبالتالي يفرك التراب . أو الغبار العالق عليها . فتتحول رقيماً شعرياً . يفوح برائحة الماضي بعيد الغور . المتردد قويا بين جنبات الأمكنة والجغرافيات في العالم . لذا لم يستقر سركون في مكان صغير . ومحدد . يزوغ عنه الى أخر وأخر . حتى عاش عمره كله في المنفى باحثاً عن أخر لن يجده . لأنه بعيد عنه . تركه غافيا فوق وسادة لوثتها دماء الأبناء . هذا هو فردوس لنا نحن البعيدين عنه . بغدادنا . دخلناها وعشناها . بتفاصيل كثيرة . لحظة تحولها الى خراب وغبار وشتائم تصل إليك من فوق سطوح شارع السعدون ومصاطب الباعة هناك .
بغداد تعويذة الخلاص والنجاة بالنسبة لسركون بولص . تحدث عنها كثيراً وطويلاً . هي توأم سركون في حواراته الجميلة والعميقة الجريئة والصريحة للغاية . واعتقد واثقاً بأن حواراته غنية . المستور فيها والكامن غير المعلن عنها في التعريف ببغداد والستينات . كيف عاش . هو وأصدقاء له . ما الذي فعله المغامرون ؟! وأتذكر بأنه قال عن احد أصدقائه . زعيم الحداثة . بأنه زاول كل شيء ومارس ما لم نكن نعرفه لحظة دخولنا بغداد .
أية جماعة وفدت الى بغداد في فاتحة الستينات . وأية ريح جاءت بهم الى مدينة تعرفت على الكلام في مقاهيها واكتشفت السياسة في شوارعها وباراتها وفنادقها . تعرفوا عليها مثل النساء . هناك الرحيل هو الوصفة القوية التي هزت الوسط الثقافي . هذا ما المح له الشاعر فاروق سلوم وتحدث عن جماعة التعريف بالحب والذوبان بالفضاء والركض نحو اليسار . فالرحيل مفردة لم تكن معروفة آنذاك . لأنه يماثل المجهول . والمخيف الذي لا تراه عين أخرى باستثناء عيني سركون بولص . هذا الظاهراتي الممتحن بالأمكنة المرتدية نسيجاً أشوريا . عرفه ملوكها وأمراءها وفاح عطر كهنتها ورجال المعابد والمطابخ في أشور قال فاروق سلوم في كلمة له : انك ذهبت الى كركوك لإكمال المعاملة . أية معاملة يا سركون بولص . غيابك المفاجئ الأبيض حيث يخلو مقعدك في واجهة المقهى الأبيض وتغيب مثل راهب اختاره يسوع لصحبة طريق الجلجلة . هل مشيت الصحراء وحيداً … هل عبرت عارياً حدود البلاء العربي الغادر ؟ خوفاً عليك من رفقة الطريق وغدر الرحيل . أنت ومؤيد الراوي وأنور الغساني والعزاوي وإبراهيم زاير . وأسماء نحبها حتى الساعة . كنتم مثقفي الحرية العراقية المأمولة قبل أن تولد . كنا نحبكم لأنكم لم تكونوا مثقفي النمط في ماكنة الأحزاب وكنا نعتقد أنكم ستبدلون بأس البلاد.
هذا كلام لا يقوله غير الشعراء . والناس الذين مسهم العشق وجنون المكان البعيد وقبل الفضاء الغريب . كلام فاروق سلوم شاهد قال كلامه وهو وسط النهر . يغتسل ويزيل ما لحق به من غبار . ليسجل طهارة عرفنا بعضاً منها ونحن نلتقيه سريعاً في فعالية ثقافية مهمة وجه لنا دعوة للحديث فيها عن التاريخ وشعرياته … هذا هو جنون الشعراء الخاص بالذي كان والذي سيكون الى الأبد . فاروق سلوم مثقف عراقي لم يشأ فتح أبواب معرفته وثقافته المتدفقة . إلا قليلاً وتجاوز خجله ليتدفق علينا طوفان ثقافة متنوعة ومثيرة جداً . هو ـ سلوم ـ مجنون أخر بالمكان وغريب في الأخر . اختتم سلوم كلمته عن سركون قائلاً : نشاركك النزاهة المستحيلة والحزن المستحيل والأمل الممكن لأنك ابيض . أنت لا تريد حتى اسمك أن يذكر بهذه الكثرة . وكل يوم تشرق فيه برلين بروحك هو تاريخه للمحبة . تاريخ للإبداع .
هو مغامر من نوع خاص . لم يستقر . بل حمل حلمه الجلجامشي الى جغرافيات كثيرة . ولم يقل له الإله مفردات الخلاص والفوز . بل تركه وحيداً ولم يفز بشيء مما حلم به وتمناه لغيره .
هل تعبت أنا
ونحن لم نكد نبدأ المسير
أنسى البحر . لا تفكر بالمراكب .
قل وداعاً للتجارة
الجغرافيات مفتوحة على الرحيل والصدفة . والشاعر لم يشعر باليأس من كثرة الأبواب التي استقبلته والأخرى التي ودعته . لأنه سعيد بها وحزين عليها . لأنها لم تكتف بما رسمته عيناه على جدرانها وما علق عليها من بصمات أصابعه … ودعها بقصيدة يقول فيها بأنه مازال قادراً على الارتحال … انه أكثر مغامرة من جلجامش العائد بيأس ولم يفكر بمرة ثانية.
للترحال أسئلته الوجودية القاسية المتكررة كثيراً في قصائد سركون . لان الهجرة قوية . ضاغطة . هي نوع من الزعل على حياة لم تمنحه فرصة الاحتفاظ بالمكان والعيش فيه . بل تحنو عليه لتمكنه من اختزان صوره في ذاكرة ازدحمت بكثير من الصور
تواصلوا أذن بالبيوت
احملوها . كما السلحفاة على ظهوركم
أين كنتم وأين حللتم
ففي ظلها لن تظلوا الطريق الى بر أنفسكم
ولن تجدوا في صقيع شتاءاتكم ما يوازي الركون الى صخرة العائلة . وحرير السكون
تواصلوا . إذن . بالبيوت
استديروا . ولو مرة نحوها
ثم حثوا الخطى
نحو بيت الحياة الذي لا يموت
مقطع يختصر تراجيديا المرتحل ومغادرة مكانه . هذه هي محنته وفي هذا النص قلقة ومزعه من تكرر مغادرة المكان . البيوت التاريخ وسردياته … الماضي بأحلامه والحاضر المتجدد دائماً بحضور مستمر . هذا نص سيري . كاف لإيضاح محنة الشاعر وإحساسه بالغربة . لأنه كائن يعيش المنفى باستمرار . البيوت التي غادرها منافي . تأتيه صورها . ونحن إليه فيتوسلها بالشعر والمحبة ” استديروا . ولو مرة نحوها ” هو الذي قال ليعبر عن محنته بشعر مركز للغاية . اختصر كل اشكالياته الانطولوجية ” أموت مراراً وأنا واحد ”
الابتعاد عن مكان الذي فيه . موت يعلن عنه بوضوح .
جاءت نصوص سركون الشعرية منذ باشر في النشر نصوص غربة بدأت زمانية . الباعث عليها شعور بالانفصال عن الزمان الذي هو فيه . ثم أخذت بعدها المكاني فأصبحت غربة المكان تعمقها غربة الزمان . وصار الشاعر منفياً داخل نفسه من خلال إحساسه هذا . وصارت الغربة باقتضاءاتها هذه بدلالة المنطوق بما تستقيم به معنى دلالة . وصارت الدلالة هي حياة الشاعر . معاناته . لم يكن في رؤيته الواقع / وموقفه من الواقع ليبتعد به كل شيء . موقفاً أو زمناً عن شعور الغريب وإحساسه فهو إذ يجد نفسه مدعواً الى أن يسرع الى بلدة جديدة ويأخذ إليها حيرته المغرمة بالحقائب . يجد الأبواب كلها مغلقة ” ومفاتيحك العتيقة لن تجد هذه الليلة”.
باختصار شديد عرف سركون بولص الحياة عندما ارتحل إليها واكتشف العالم لحظة هروبه منه
مات سركون بولص بعد أن قال أن الموت سيد عطشان . سيشرب كل ما في آبارنا من نفط وكل ما في أنهارنا من ماء.