النظرية النقدية العربية.. وحصاد الأحفاد ما زرعه الأجداد

د.ثائر العذاري

ليست النظرية النقدية مجموعة الإجراءات التي يجريها الناقد للتعامل مع نص ما بقدر ما هي الفكر النقدي النظري الذي يفسر ويضع التعريفات لقضايا مثل وظيفة الأدب، وحدود الأجناس الأدبية، وشعرية النص الأدبي، وكل ذلك وغيره يبنى على تفسيرات وتعليلات أنضجت داخل وعاء فلسفي واحد. وكلما طرأ تغيير على ذلك الوعاء الفلسفي تبعه تغيير مشابه في النظرية النقدية.
وعلى الرغم من كثرة القضايا النقدية التي امتلأت بها كتب القدماء وأهميتها فإن من غير الممكن النظر إليها في إطار واحد وصياغة نظرية نقدية واضحة منها، فهي أولا متعارضة فيما بينها، وثانياً هي نتاج عبقريات فردية لم يهيئ لها السابق ولم يبنِ عليها اللاحق، فعلوم مثل البديع والعروض ونظريات مثل عمود الشعر ونظرية النظم إنجازات نقدية كبرى لكنها جمدت على الحال التي ابتكرها عليها أصحابها، فضلا عن عدم انتظام تلك القضايا في إطار فلسفي واحد. ويبدو أن أسبابا خمسة منعت من ذلك هي:
أولا: استبعاد الفلسفة وعدها نقيضا للدين، بل هي ضرب من الكفر الذي يلقي بصاحبه إلى التهلكة، وعودها في أفضل الأحوال حقلا معرفيا مستقلا. الأمر الذي أدى إلى أن تتحول الإنجازات الفكرية العربية إلى صناديق مستقلة عن بعضها بدل أن تنتظم كحبات في عقد واحد.
ثانيا: توسيع كثير من العقائد الدينية لتحكم كل مناحي الثقافة والفكر، ففكرة تفضيل الصحابي على التابعي والتابعي على تابع التابعي فقط لأنه الأقدم، انعكست على النقد فصار امرؤ القيس أفضل الشعراء طرا والقديم أفضل من المحدث، بل أحيط منجز القدماء بهالة من القداسة لا يسمح العرف الثقافي بتجاوزها، فقيل عن نحو سيبويه إنه علم نضج واحترق وسمي كتابه (الكتاب) تشبيها له بالقرآن ثباتا واكتمالا وقداسة.
ثالثا: لم تنحُ تلك الجهود الضخمة منحى تحليليا ساعيا للكشف عن النظم الداخلية للمنجز الأدبي، بل كان هدفها تعليمي غايته مساعدة الشاعر والكاتب والخطيب في بلوغ درجة إجادة فنون القدماء واستعمال اللغة كما استعملوها. فالخليل مثلا لم يكن معنيا بالبحث عن سبب بناء أوزان الشعر على الحركات والسكنات قدر عنايته بوضع قواعد تعليمية واضحة، ولم يكن ابن المعتز معنيا بالبحث في جمال البديع وتحليل علاقاته الجمالية ودلالاتها قدر عنايته بالوصف والتقعيد ليصبح البديع دورة تدريبية بدلا من أن يكون نظرية جمالية.
رابعا: انتقال فكرة وحدانية الله وعدم غفرانه لمن يشرك به إلى المفاهيم الثقافية، فأصبح الواحد الفرد أفضل من الجماعة المتعددة، فلم يعتد القدماء على عمل الفريق، بل كانوا يعملون فرادى، وكان أحدهم حين يعكف على تأليف كتاب فإنه لا يعلن عن ذلك حتى يتمه، فكانت الكتب تظهر فجأة في مجالس الملوك والأمراء وحلقات الدرس.
خامسا: سلطة النص التي أخذتها الثقافة من القاعدة الفقهية «لا اجتهاد في مورد النص»، فكان الناقد غالبا يدعم رأيه بنص لشيخ قديم، فحين يقول قال فلان فهذه حجرة قاطعة لا تُرد ولا يجرؤ على مخالفة شيخه إلا نادرا.
وعلى الرغم من انقضاء ما يربو على ألف عام منذ عصر ازدهار الثقافة العربية، وعلى الرغم من البحث الدائب عن نظرية شاملة قادرة على استلهام روح العصر، فما زال الأحفاد يحصدون ما زرعه الأجداد، وما زالت تجارب العمل النقدي في مجموعات أو فرق عمل تمنى بالفشل وما زال الناقد يرى أنه وحده في الميدان، وانتقلت سلطة النص من القدماء إلى الغربيين، إذ يكفي أن يبدأ الناقد مقاله بعبارة قال بارت أو قال فوكو ليكسبه قوة ومصداقية لا ترد.
إن ما تشهده الساحات الثقافية العربية من إرباك وغياب لرؤية سائدة أو طابع ثقافي غالب إنما هو إرث ينبغي مقاربته مقاربة إبستمولوجية، وإنه لن يصلح ما لم نعترف بتلك العيوب التي شابت عمل الأجداد وتجاوزها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة