شاعرة ترسم العوالم الصعبة
2-2
د. سلمان كاصد
تحاول غرام الربيعي أن تحول الصورة من معناها الذي ابتدأت به إلى معنى آخر تنتهي به غموضا:
مرارة الفراغ
لا تعني أني أتعرق وحشة
إذ بدا الفراغ مراً , ربما هو الفراق (الفراغ=الفراق), الذي يقترب اجناسيا عبر (العين والكاف) ولكن حصول الاستبدال بدا لعبة لغوية لخلق صورة شعرية ملتبسة , غير ان السطر الثاني أراد أن يعيد تشكيل تلك الصورة الشعرية عبر (التعرق وحشة) الذي تنفيه ب»لا تعني « إظهارا وهي بذلك لا تنفيه (إخفاء) إي أنها أرادت التعرق وحشة فعلا لا كما جاء في السطر الشعري:
لا تعني إني أتعرق وحشة
أما في قصيدتها (قلق النوافذ ) فيمكن لنا أن نمسك بقلق القصيدة لدى غرام الربيعي:
ضوء راودني
لنوافذ ترمقني
لا شيء أسدله
إلا وجعي
فمن الطبيعي ان تبدأ القصيدة القصيرة هذه بخطاب متداول / يومي لا شعرية فيه (الضوء راودني ) و(النوافذ المبصرة ) وهي لا تستطيع ان تسدل تلك النوافذ إذ لا شيء لديها غير أنها فجأة تحول العادي / المألوف إلى نسق تغريبي عبر اكتشافها الوجع ستارة , وهذا ما لا يمكن تخيله إلا في الشعر, الذي يعتمد على التصوير والتخييل والتغريب, كما قلنا سابقا , ولكن الذي لا أتوقعه حقا أن يصبح الوجع ستارة وقد أتساءل هنا هل تستطيع ستارة الوجع أن تحجب الضوء وتحديق النوافذ.
أرادت الربيعي ان تقلب الصورة في السطر الثاني عندما جعلت النوافذ هي المبصرة / ترمقني / في محاوله منها لخلق شعرية في هذا السطر غير انها لم تفجر لحظة الشعر الغريبة إلا في سطرها الأخير حين كسرت أفق التوقع.
2) التصوير التخييلي
من مشكلات قصيدة النثر غلبة التصوير التخييلي الذي لا يمكن تخيله حتى لتبدو القصيدة تراكمات تصويرية متلاحقة لا تمسك حوافها ولا تبيح نفسها لمن أراد اجتناها «استخدام روجيه جارودي لعبارة بول ايلوار في مقدمة «واقعية بلا ضفاف».
التخيل هنا يخرج عن إطاره إلى الأطر السردية الذي تحاول ان تقدمه الشاعرة ونقرأ ذلك في قصيدة «قلق النوافذ» حيث نجد السرد متجليا في العناصر «أنا الشاعرة, الأب , الأم « من المقطع الثالث تحديدا, أما المقطعان الأول والثاني منها فهما فرشة مكانية « للنوافذ والجدران» التي تجمع العناصر الثلاثة السابقة.
يمكن تصور التخيل عبر «بسملة القلق» و» أبي المضرج بالبياض» حيث تزيح الشاعرة الصورة من معناها المتداول « المضرج» إلى معناها الشعري المغاير:
طعنة الليل
لا تمنح قلب أمي
إلا بسملة القلق
وأبي المضرج بالبياض
قصائد صامتة
أبي
كم راودته الستائر
هذا النسق بدت فيه الوحدات سردية واصفة, تناوبت تلكما الوحدتان في الاستحواذ عن الأسطر , مع جنوح التخيل إلى أقصى المديات مما لا تخلق تماسكاً في النص الشعري غير ان ما يجمعها هنا هو روح الألم في المهيمنة عن التخيلات التي تخلقها أنا الشاعرة الساردة.
فبقدر ما تكون غرام الربيعي غامضة في تخيلاتها, تكون بالمقابل واضحة في خلق تصويراتها أيضاً ففي قصيدة «يأتيك الصباح مكبلاً بالقصائد « نقرأ:
يا لقلبك كم يخفق بالجنون
يا لمساءاتك كم تعشق القمر
يا لجنونك السومري
يملا أوراقك الساخنة بالهذيان
هنا تكرارات لـ(ياء) النداء وهذه جزء من بنية قصيدة النثر كما تحدثت عنه في كتابنا «قصيده النثر طبعة دار الكندي –عمان -2010» حيث يعيد الشاعر النسق التكراري لمرات عدة, تعويضا عن فقدان قصيدة النثر النمط العروضي والقافية والتناغم الصوتي , وهنا تشتغل الشاعرة على خلق نسق مقارب وهو «التكرار « الذي يؤجج الرغبة في التنغيم.
لا يفلت السطر الشعري عند غرام الربيعي من انزياح باتجاه لم يتوقعه القارئ , أي إنها تخييل يتمازج بين المألوف واللامألوف من مثل :
وسمرة بسحنة الوفاء والمحبة
إذ هي نقلت التوصيف مما وضع له إلى ما لم يوضع له:
تجمع الأصدقاء
جيوبهم ممتلئة بالهواء
وقصاصات شعر
وهنا لم تتدرج الشاعرة من المألوفية إلى اللامألوف بل أعادت نصها إلى المألوف ثانية, ولم تشتغل شعريتها الا في السطر الثاني وفي توصيف ممتلئة بالهواء كذلك:
انثاهم جميلة الجميلات
تلك التي ..
حرموا من تذوقها
إلا في مواويل الحسرة
يتحول الخطاب الشعري لدى الشاعرة غرام الربيعي من موقع لآخر في قصيدتها, مختارة نجد المفارقة والمغايرة داخل القصيدة وأخرى في نهاياتها, وأتصور أن الاشتغال على البنية الداخلية للقصيدة يجعل النص أكثر حيوية بالرغم من أن تحول النسق الذي تحدثنا عنه في نهاية القصيدة يعطي النص جمالية كما في قصيدة « أوزار الوقت»:
رائحة التنور
تفوح من أفواهنا
حرية ساخنة
3)الضمير المهمين
تهيمن أنا الشاعرة «على مجمل قصائد غرام الربيعي فليست ثمة أقنعة لساردين آخرين , أو حتى للساردة ذاتها كونها وسيطا, بل يظل « الأنا» مهيمناً, ففي قصيدتها «إلى أين .. إننا نذهب الحرب «:
بلون الدخان
سكنت الحرب جسدي
وهي بذلك تجعل من ذاتها مركزا في قصيدتها , حيث يتشكل العالم من خلالها وهي التي تقدم لنا بالطريقة التي تجعله عالما ينتمي لها , لا نبصره نحن إلا من خلالها .
بلون الدخان
يخنق المدبلجون أنفاس الشعر
وقصائدي البلهاء
تلعن كل العطور الباريسية
كما ان الربيعي تبدو أكثر قسوة في لحظه تقديم عالمها الشعري , إذ ان النسق المضمر الذي يدعونا لتأمله هو تصديها للعالم ورفضها لكل تداعياته وتمزقه الذي يؤرقها فنراها تصوغه بشكل حاد وقاس ومريب.
غرام الربيعي .. شاعرة ترسم العوالم الصعبة وتلجأ في قصائدها إلى التصوير الصعب والعلاقات الاستثنائية , فتعيد صياغة قسوتها وهي تقترب من لعبة الشعراء في خلق صلابة في القصيدة .
كنت أتمنى ان اقرأ شعرا اقل قسوة وابسط في تناول هشاشة العالم الذي تخيلته هذه الشاعرة فبدا صدامها معه واضحاً.