جمال جصاني
البعض ممن أدمن اجترار علف الاجابات الجاهزة وترديد الاناشيد والترانيم الخاوية، لا يطيق الالتفات قليلاً لما وراء المشهد الغرائبي ومخلوقاته المنحدرة الينا من مغارات ثقافتنا الراكدة منذ أكثر من الف عام وعام، مشهد تسقط فيه ثاني محافظات بلاد الرافدين (الموصل) بيد أحد أكثر النسخ همجية وانحطاطاً من مختبرات التكفير والهجرة (داعش) ليبرر كل ذلك بوصفه صراعاً بين مكونات وشعوب وقبائل هذا الوطن القديم، وحيث مناخات التعصب والاحتقان الطائفي والعرقي توفر كل مستلزمات رواج مثل هذا الخطاب، وتقلص من حظوظ الفهم العقلاني والمسؤول لمجرى الاحداث ومغزاها العميق. في مثل هذه المناخات والشروط الشاذة، نادراً ما يتم التوقف عند محطات ذلك الشوط الطويل من الهزائم والتجارب السياسية الخائبة، والتي راكمت كثباناً من المفاهيم والقيم الصدئة التي انجبت في نهاية المطاف هذا السيل الواسع من قيح العقائد والبيارغ واللافتات والجرائم والجماعات.
هناك خزان هائل من المواقف والتشريعات والقرارات الجبانة والمتخلفة تقف خلف هذه الغيبوبة والهلوسات التي استهترت بابسط حقوق البشر البدائية في مضاربنا المنكوبة. ولا أحد ينكر بواكير الهرولات المسرعة الى الخلف، والتي انطلقت عشية انهيار النسخة الاخيرة من الخلافة الاسلامية (العثمانية) خاصة بعد ولادة الجماعة الاخطبوطية (الاخوان المسلمون) والتي تدفق من رحمها كل هذا السيل من تنظيمات وفصائل الدمار الاسلاموي الشامل والذي تشكل داعش آخر ابتكاراته على درب استرداد الفردوس المفقود (الخلافة الاسلامية). ومن حسن حظ سكان البلد الذي ولد فيه هذا الوباء انهم ادركوا وبعد عام من تجربة الجماعة في حكم مصر؛ الغايات والمقاصد الكارثية لمشروعها في اخونة الدولة والمجتمع. ومن يتصفح قليلاً في نهج وممارسات الاخطبوط الاسلاموي وخاصة في مجال التنكيل بكل من يتجرأ على التصدي لمشروعهم في اعادة انتاج منظومة القهر والاستبداد، يشاهد بوضوح بيوض داعش التي فقست مؤخراً. لا أحد بمقدوره فصل مشهد طعن نجيب محفوظ واغتيال المفكر الشجاع فرج فوده وقرار القاضي المتخلف بحق المفكر التنويري نصر حامد ابو زيد، ولا اغتيال العالم الجليل حسين مروة والمفكر مهدي عامل أو اغتيال ذوالفقار علي بوتو وكريمته بينظيربوتو وغير ذلك من الجرائم البشعة عما يجري اليوم في وطننا المنكوب بآخر ابتكارات جماعات البوكو حرام والجماعات التكفيرية التي طفحت وتناسلت بفعل الحملات الايمانية والهوس بلقب (الرئيس المؤمن) وغير ذلك من كرنفالات الخيبة الشاملة، والتي لن تتوقف من دون مضادات حيوية وقرارات شجاعة تردع وتجفف منابع وجحافل هذه الردة الحضارية وتداعياتها المدمرة.