ميدانان وثقافة احتجاج واحدة…الموسيقى التصويرية للثورة*

فن الاحتجاج السياسي في مصر وتركيا بالموسيقى والأفلام

أمين فرزانه فر

هنا في هذه المادّة استعراض لفنون الشارع مجدداً، وبالتحديد الموسيقى والأفلام التي كانت بالتأكيد لا غنى عنها في ثقافة الاحتجاج في كلا الميدانين (التحرير وتقسيم) في القاهرة واسطنبول.

يوجد فرق نسبي بين التحرير وتقسيم يتعلق ربما باختلاف تفضيل الرسم أو الكتابة: فيضان الصور في مصر والعدد الهائل من رسوم الجرافيتي بما تشتمل عليه من تنوع هائل في المواضيع والمعاني لم يكن بالدرجة نفسها في تركيا، حيث امتلأت الساحة هناك بالكتابات وشعارات الصمود ومناشدات التضامن وإعلانات التعازي وقبل كل شيء بالشعارات الساخرة والتعليقات الساخرة على الفيسبوك، كان كثير منها موجَّه مباشرة لرئيس الوزراء.

كتابات ساخرة

وبعد إطلاق عدد هائل من التعليقات الساخرة بسبب استعمال كميات عملاقة من الغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين، كتب كُشك في موقع مركزي من المدينة “لا يوجد مشروب “العيران” التقليدي ولكن يوجد لدينا غاز مسيل للدموع!” كما وصف شخص في زي “أيرون مان” (الرجل الحديدي) نفسه ساخرًا بـ “عيران مان”، وهو يشير بذلك إلى مقولة أردغان أن المشروب القومي لتركيا هو مشروب الزبادي “العيران” وليس الـ”راكي”، كما يشير مستهزئاً إلى وصف أردغان لنفسه بالرجل الحديدي.

كان كل شيء تقريباً يدعو للكتابة الساخرة، حتى قطع السيارات المتساقطة والمحترقة كُتب عليها “مكعبات جاهزة للاستعمال”، مما أضاف على هذا الشعار معنى جديداً: على سبيل المثال كتب أحدهم على التلفاز كلمة “كذبة!”.

لم تتحول بذلك البيئة الحضرية إلى مادة خصبة للشعارات الثورية وحسب، وإنما إلى منبع للّعب بالكلمات بطريقة إبداعية ـ تحولت المدينة إلى فكاهة ـ ومجموعة من الروابط: في كل مكان يمكن قراءة هاشتاج (وسم المربع) مثل: #Redhack و #Resistanbul و #occupygezi و #direngezi.

صوت القدور والمقالي

الإبداع ميّز أيضاً العروض الموسيقية: في شهر نيسان ـ أي قبل استعمال الشرطة للعنف بفترة طويلة ـ شهد متنزه جيزي حفلات موسيقية للتضامن. ولذلك أصبحت فرق موسيقية وبعض الموسيقيين من أكثر المشاركين المبدعين، حيث قاموا بإعادة كتابة أغاني احتجاجية قديمة، أو شحنوا الأغاني العاطفية بمعاني سياسية أو ألفوا أغاني جديدة: وعندما تم تجريم الطرق على الأواني في الليل لأنه كان تعبيراً عالي الصوت عن التضامن مع الحركة الاحتجاجية، جاء رد فرقة “كارديس تركولر” الشهيرة بأغنية يُعزف لحنها على أدوات وأواني المطبخ: “صوت القدور والمقالي”. وجدير بالذكر أن هذه الفرقة التي تتكون من أعراق مختلفة تستلهم موسيقاها منذ التسعينيات من الثقافات الموسيقية المختلفة التي تزخر بها تركيا ولذلك فقد كانت خير من يُعبر عن هدف التعددية التي حملت حركة الاحتجاج رايته.

موسيقى احتجاجية

أما في مصر فقد كان دور الموسيقى ربما أكثر أهمية: في أثناء الثورة استطاعت فرق بديلة كثيرة، من تلك التي عانت القمع قبل ذلك، أن تجد جمهورها ـ سواء في حفلات موسيقية في ميدان التحرير أو من خلال الآلاف من مرات الدخول على مقاطعهم المصورة على الإنترنت. ويدخل تحت “الموسيقى التصويرية للثورة” الكثير من فناني الروك والراب: “تمرد” لفريق “أرابيان نايتس” أو “ارحل” لرامي عصام، أو “الانتفاضة المصرية” التي كتبها أحمد فؤاد نجم وغناها الشيخ إمام، أو الأغنية الرومانسية للثورة: “صوت الحرية” لأمير عيد وهاني عادل وشريف مصطفى.

الموسيقى الشعبية

كما وجدت طريقها أيضا من الهامش إلى المركز تلك الموسيقى الجديدة المعروفة بالموسيقى الشعبية الإلكترونية “إلكترو شعبي”، وهي صورة جديدة من الموسيقى الشعبية التي انتشرت في السبعينيات في الأحياء الفقيرة. المغني عمر حاحا والدي جي فيجو وسادات وأوكا وأورتيجا وأيضًا إسلام شبسي ـ كلهم تسخر نصوصهم أيضا من وعود الثورة ـ بدلاً من “الشعب يريد الثورة” أصبحوا يغنون “الشعب يريد تحويل رصيد للهاتف بخمسة جنيهات”، وهذه الأغاني تُظهر مدى قربهم من الناس وقدرتهم على التأقلم مع المتغيرات.

أفلام وثائقية في “عين الثورة”

ومن أكثر الناشطين في ميدان التحرير كان مخرجو الأفلام الذين عانوا طويلاً من الرقابة وتقديم طلبات للموافقة على أفلامهم وهو ما كان يستلزم وقتًا طويلاً. وفي مقابل التغطية الصحفية الكارثية لوسائل الإعلام الرسمية كانوا هم “عين الثورة” التي تبحث عن رؤية مختلفة للأحداث. كما تحاول المجموعة القاهرية.

وفي اسطنبول حاولت “فيديوكوبي“ عمل الشيء نفسه لإنشاء سجل متعدد ومتاح للجميع يكون بمنزلة مدخل للحصول على المعلومات. ومهرجان الأفلام الوثائقية الدولي Dokumentarist بعد أن صدمه تصعيد الأحداث قام بنقل عروضه ومسابقاته مباشرة إلى متنزه جيزي.

وقد أعطت الأحداث دفعات جديدة تماماً لصناعة الأفلام التركية، التي شهدت مرحلة ازدهارها الحقيقية في السبعينيات والثمانينيات، برغم ما تعيشه اليوم من بعثٍ جديد، وسيظهر تأثير تلك الدفعات في الأشهر والسنوات المقبلة.

الذي يبقى في النهاية

القاهرة واسطنبول: تم فض خيام الاعتصام. عاد الفن مرة أخرى للحياة اليومية وعاد إلى الركن الخاص به في الفضاء الاجتماعي. وبالنظر إلى المشاكل السياسية الملحة فإن النهضة الثقافية لا تتصدر الآن جدول الأعمال ـ إلا أن تفجر الطاقات الإبداعية الذي نجح يوماً سيظل له بالغ الأثر على الحياة الثقافية وعلى فهم الفن لذاته، حتى بعد توقف التوترات بصورة مؤقتة ـ وهو ما يظهر للعيان من خلال عودة الحركة المرورية مرة أخرى إلى تلك “المنطقتين الخاصتين” التحرير وتقسيم. لقد أظهرت الأحداث التي دارت في الميدانين بصورة قاطعة ونهائية أن: الممكن يمكن أن يتحقق.

إسلام شيبسي أو فرقتي آرابيان نايتس أو كاردش توركولر – جميعهم قد أعطوا صوتاً لثقافة الاحتجاج الجديدة. في ميدان التحرير وفي ميدان تقسيم على حد سواء يحلم الناس بأنموذج مجتمعي بديل وجديد، ذلك الأنموذج الذي تألق وبرز لاسيما في مجال الفن.

* عن موقع “قنطرة”

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة