صادق باخان*
عندما تذهب الغيمة بعيدا فأنها لا تموت ، وامل ان لا تعتقد انني اكتب داخل تلك الظلال الضائعة بين الشموع والنبيذ فانا اكتب مسرحيات ببقايا الكلام وبقايا الخشب وبقايا الماء وبقايا التعب اكاد اقول انني اكتبها ببقايا الموت –
بهذه اللغة تحدث الكاتب المسرحي فاتسلاف هافل الذي صار اول رئيس لدولة التشيك غداة سقوط امبراطورية البابوات الحمر ، فهو يتحدث مثلما كان يكتب بلغة موحية تلغي لغة المومياءات من اجل وضع معجم للغة اخرى تلغي قوانين الكتابة الانشائية لغة كالتي تحدث بها الكاتب الاميركي بيتر تاور حين قال بان جدته كانت تشبه حورية البحر وكانت تتكلم مثل الساحرة ، فأوراق الشجر هي اوراق الحب والبحيرة هي غرفة المطر والجبل هو قبعة الهواء !!
كما ترون ان اندريه بريتون ما كان بوسعه الحديث بمثل هذه اللغة حتى لو انه التقى بنادجا اخرى –
اجل ، ان الكتابة الرديئة تفقد شرعيتها لان صاحبها يعادي لغة القلب والعقل التي تتجاوز تخوم لعبة الدجل اما الكتابة الجيدة فأنها تحملك على ارتداء معطف الدهشة التي هي جوهر الشعر واللمسة الجمالية الباهرة ، وعندي ان طه حسين هو مايسترو سمفونية اللغة الباهرة –
هناك كتابة تجعلك من سطرها الاول تحس بالغثيان لا يعادله غثيان روكنتاين المسيو جان بول سارتر وقد ظهر منها الكثير غداة العام 2003 في هذه الصحف التي تكاد تشبه صحف القمامة مثلما في لندن وهناك كتابة اخرى تجعلك فورا اسير جمالها فلا تملك حتى وانت في قمة احساسك بالتعب والسام والغضب الا ان تمضي في مطالعتك لها لما تكتشف فيها من صدق المشاعر والاسلوب الانيق ومن معرفة رصينة لا ينالها شك او اعوجاج واذا فرغت منها تشعر من فورك كأنك قرات سفرا مدهشا –
الكتابة الجيدة هي تلك التي تلغي المسافة بين الكآبة والكآبة او تلغي الاحساس بالزمن ، انها تقدم لك دعوة للخروج من الغبار ، كان الروائي الاميركي هنري ميللر صاحب ثلاثية سيكسوس وبلكسوس ونيكسوس ومدار السرطان ومدار الجدي بكل احساسه بالعطب وهو يعيش داخل كابوس مكيف الهواء يقول بانه لا يحب سوى الاعمال التي تفتح له بوابات سجن ذاته –
الكتابة النثرية الممتازة ذات السمات الجمالية والمعرفية تصبح افضل بكثير من الاف القصائد الرديئة التي تشبه عربات الموتى ن فانت مثلا اذا قرات رواية الشيخ والبحر لهمنغواي تشعر كأنك تقرا قصيدة ملحمية عن كفاح انسان مع البحر ومعركته مع سمك القرش والهزيمة ، وماذا عن رواية الجوع لكنوت هامسون ؟ انها رحلة داخل قلب معذب يتجاوز مراحل العمر ، نزهة خشنة في مملكة الشعر –
ولا يجيد لغة الشعر الا من امتلا فمه بالزجاج القادم من حماقات وخساسات الاخر ولا تكتسب الكتابة صفة الجودة والامتياز الا اذا كانت مكتوبة بدم القلب ، قال نيتشه — انني استعرض جميع ما كتب فلا تميل نفسي الا الى ما كتبه الانسان بقطرات دمه ، اكتب بدمك فتعلم حينـذاك بان الـدم روح.