للشاعر عيسى إسماعيل العبادي
محمود خيون
يصف أحد الباحثين في شؤون الأدب والشعر( مهدي يزداني خرم ) أنه قد يكون من الصعب إحصاء الأعمال الأدبية التي تناولت حروبا، غير أن دراسة سريعة لتطور هذا النوع من الأدب تظهر الدور البارز للادباء والمثقفين في مناهضة الحروب من خلال كتاباتهم، لاسيما في العصر الحديث، وربما يمكن القول أن تأريخ أثر الحرب على الأدب، يعود إلى عصور ما قبل الميلاد وعندما نبحث في اقدم نصوص الأدب العالمي ،في الغالب نرى أن الحروب القومية والإقليمية لعبت دورا مباشرا في سرد الروايات الادبية في تلك الفترة…وتعتبر ملحمتا « الالياذة والاوديسا «للشاعر اليوناني « هوميروس» من أبرز تلك الروايات الأدبية التي تتحدث عن عدد من الحروب التي وقعت في تلك الفترة الزمنية، ومن ضمنها «معركة طراودة « ولكن هذه الأمثلة تختلف كثيرا عن الروايات التأريخية التي ظهرت في عصور ما بعد الحداثة .
ومما تقدم نود الإشارة إلى أن تأريخ أوروبا شهد مخاضات كثيرة للقصيدة الحديثة التي تناهض الحرب ودمار الإنسان من خلال زجه في متاهات فكرية تولد لديه حالة الشعور بالاضطهاد وضيق الممارسة الفعلية لما يريد البوح به أو الاجهار بمنطق الكتابة التي تحقق له المراد في التعبير والوصف للحالة المعنوية والإنسانية وما تمر بها البلاد من مأس ونكبات، فظهرت القصيدة الحديثة وواكبت الأحداث والتكوينات التي مرت بها دول العالم، وكان الإنسان وقضيته في العيش والتمتع بالحرية والأمن والأمان والاستقرار محور تلك القصائد في الغرب وفي العالم العربي، فظهرت قصائد لشعراء من أبرزهم امل دنقل في مصر وأبو القاسم الشابي في تونس وبدر شاكر السياب في العراق ورياض صالح حسين في سوريا ومحمود درويش من فلسطين، وفي الغرب ظهر الشاعر جون كيتس في انكلترا والشاعر الروسي ألكسندر بوشكين والشاعر الإنجليزي بايرون والشاعر الإسباني لوركا وغيرهم..حيث كان للشعر رهبة وهيبة لدى الجميع ومنهم من يتباهى بأن هذه القصيدة التي شحذت الهمم وسطرت رموز البسالة والشجاعة والتضحية والحزن والضياع والتشرد والتشتت لشاعر من أبناء قومه وبمعنى أدق من بلاده…
واليوم ونحن نتمعن القراءة في ديوان الشاعر عيسى إسماعيل العبادي( بلاد الوجع ) تعود بنا الذاكرة لتلك الحقب الزمنية الفائته التي شهدت قصائد تحكي قصة الإنسان المعاصر وعذاباته التي ليس لها حدود…فهو يحدثنا وبلا مقدمات عن بلاده التي تقطعت اوصالها وتحول الفتيان فيها إلى إلى كتل من الحجر الأصم أو هو يمثل مسيرتنا واحزاننا المثخنة بالجراحات الخفية فهو يردد في قصيدة( لم يكن حجرا )القول….
( لم يكن هذا الفتى حجرا
ربما كان شمسا
سماء ً لا تحد ُ
بلادا مقطعة الاوصال كان..
أو مطر..)
ولم يقف الشاعر عند هذا الحد بل تعدى ذلك لأن يصف الوطن المفتوح والمباح بوجه الهواء الطلق. الوطن المثخن بالجراحات والمشرع للغزاة والعابرين…
( الوطن المفتوح للهواء الطلق..
لابتكار الحياة
وبناء قبلة للاخرين
على مر السنين
غير الوطن المجروح.
الوطن المفتوح
للغزاة والعابرين.. )
وفي محاورة طارئة يستدرك الشاعر عيسى العبادي بأن بلاده التي علمت الخليقة أنواع الفنون والمعارف أصبحت كالباب المفتوح الذي يدخله الغرباء ويدوسون باقدامهم المشوهة الغريبة أرضه من كل صوب وحدب ومن جميع جهاته ويصولون عليه متأبطين عربة اشور التي كان يصطاد بها الأسود للفتك به وانتهاك حرمته…
( لم يكن بلدي
يمشي إلى أحد
كانت جبابرة الدنيا
وطغاتها
حاسرة الرأس
صاغرة..
تأتي إليه )
لقد تميزت قصائد الشاعر عيسى إسماعيل العبادي في ديوانه(بلاد الأوجاع ) بمجموعة تراتيل مقدسة في صيرورة الحدث الكبير بل المخاض الكبير الذي مرت به البلاد من المحيط إلى الخليج، عاشت في ظلام الأيام ونشيج الحسرات وانين الأرامل و الضائعات في أحضان الرغبة الجامحة وهي تتكسر كالمراة على اجسادهن الفتية. بلاد ضاقت بها المسرات وهي تعيش ضنك الأحلام وخيباتها الكبيرة…
( موحش بلاها الطريق
موغل في الظلام
كأني أراها
بلادا تضيق
وذي حرب ٌ
تغطي سماها..
فوق ثراها السلام..)
في خضم هذه الهواجس والاحاسيس المرهفة تمكن الشاعر أن يقود كل تلك الحشود من الوصف والتعبير لتعزيز المعنى في جميع قصائد الديوان التي عبر فيها عن حجم الألم الكبير الذي يجوس روحه ويعصر قلبه وهو يرى ويسمع ما يحدث كل يوم في ربوع بلاده…فلم تعد كما كان يراها مسورة بالواح الحضارات التي تحيط باطرافها السدود والأنهار المحاطة بالرماح والرايات..
( صارت المدينة
جزرا مبعثرة
مباحة ً
في زمن الاسلاب )
نقول على الرغم من أن أغلب قصائد الديوان لم تتحرر من قيود قصيدة النثر أو الحداثة التي تفتقر في بعض أبياتها إلى الإيقاع والموسيقى، إلا أنه إستطاع أن يعبر من خلالها الشاعر عيسى إسماعيل العبادي عن مديات جديدة في الشعر الحديث الذي شاع بين الأوساط الأدبية في البلاد العربية والعراق بوجه خاص… إذ تمكن الشاعر من خلاله ان يتحدث بكل جرأة وبسالة وشجاعة عن أزمنة الخراب التي جاءت بها قوافل الشر لتحيل تلك القلاع الحصينة منذ اشور إلى بلاد للاوجاع والحسرات…